الحمد لله.
يذكر بعض الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : عجباً لقريش تتهمني بالجنون وأنا أزكم في الشهر مرتين! .
وبعضهم يذكره بلفظ : كيف أجنّ وأن أزكم في العام مرتين ؟! .
وهذا الكلام لا أصل له عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وركاكة لفظه ومعناه تنادي عليه بالفساد والبطلان .
قال ابن القيم رحمه الله : " والأحاديث الموضوعة عليها ظلمة وركاكة ومجازفات باردة تنادي على وضعها واختلاقها على رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
انتهى من"المنار المنيف" (ص 50) .
ثم ذكر جملة من الأمور الكلية التي يعرف بها كون الحديث موضوعا ، ومنها : " ركاكة ألفاظ الحديث وسماجتها بحيث يمجها السمع ويدفعها الطبع ويسمج معناها للفطن " .
"المنار المنيف" (ص 99)
وإنما يعرف عقل العاقل برزانته ، وجودة رأيه ، وصحة تفكيره وسداد قوله ، ويعرف المجنون بخلطه ووسوسته وسوء رأيه وانحراف تفكيره ، ولا علاقة للجنون بالعطس والزكام .
وإنما يعرف النبي بآياته التي بعث بها ، وبالنظر في نفس رسالته ، وعظمتها ، وما فيها من البرهان الباهر على صدقه على ربه ، وشخصه وخلقه وما هو عليه ، كما فعل هرقل .
وبقياس رسالته برسالة الأنبياء من قبله ، حتى يعلم العاقل الخبير : أن الجميع قد خرج من مشكاة واحدة ، كما فعل النجاشي .
وكيف يبرهن أعقل الناس على سلامة عقله بإصابته بالزكام ، ويترك ذكر الدلائل البينة والحجج القاطعة التي تدل على أنه أعقل الناس قاطبة ؟
قال القاضي عياض رحمه الله:
وَأَمَّا وُفُورُ عَقْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- وَذَكَاءُ لُبِّهِ وَقُوَّةُ حَوَاسِّهِ وَفَصَاحَةُ لِسَانِهِ وَاعْتِدَالُ حَرَكَاتِهِ وَحُسْنُ شَمَائِلِهِ: فَلَا مِرْيَةَ أنَّهُ كَانَ أَعْقَلَ النَّاسِ وَأَذْكَاهُمْ، وَمَنْ تَأَمَّلَ تَدْبِيرَهُ أَمْرَ بَوَاطِنِ الْخَلْقِ وَظَوَاهِرِهِمْ ، وَسِيَاسَةَ العامة والخاصة ، مع عجيب شَمَائِلِهِ ، وَبَدِيعِ سِيَرِهِ ، فَضْلًا عَمَّا أَفَاضَهُ مِنَ الْعِلمِ ، وَقَرَّرَهُ مِنَ الشَّرْعِ ، دُونَ تعلمٍ سَبَقَ ، وَلَا مُمَارَسَةٍ تَقَدَّمَتْ ، وَلَا مُطَالَعَةٍ لِلْكُتُبِ مِنْهُ: لَمْ يَمْتَرِ فِي رُجْحَانِ عَقْلِهِ ، وَثُقُوبِ فَهْمِهِ ، لِأَوَّلِ بَدِيهَةٍ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُحْتَاجُ إِلَى تَقْرِيرِهِ ؛ لِتَحَقُّقِهِ .
وَقَدْ قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: قَرَأْتُ فِي أَحَدٍ وَسَبْعِينَ كِتَابًا ، فَوَجَدْتُ فِي جَمِيعِهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْجَحُ النَّاسِ عَقْلًا ، وأَفْضَلُهُمْ رَأْيًا " .
انتهى من"الشفا بتعريف حقوق المصطفى" (1/ 66) .
وروى ابن إسحاق في "السيرة" (ص150) ، ومن طريقه البيهقي في "دلائل النبوة" (2/ 200) عَنِ ابْنِ عباس : " أن الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ اجْتَمَعَ وَنَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ ، وَكَانَ ذَا سِنٍّ فِيهِمْ، وَقَدْ حَضَرَ الْمَوَاسِمَ، فَقَالَ :
إِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ سَتَقْدَمُ عَلَيْكُمْ فِيهِ ، وَقَدْ سَمِعُوا بِأَمْرِ صَاحِبِكُمْ هَذَا، فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا وَاحِدًا، وَلَا تَخْتَلِفُوا فَيُكَذِّبُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَيَرُدُّ قَوْلَ بَعْضِكُمْ بَعْضًا.
فَقَالُوا: فَأَنْتَ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ، فَقُلْ، وَأَقِمْ لَنَا رَأْيًا نَقُومُ بِهِ .
فَقَالَ: بَلْ أَنْتُمْ فَقُولُوا أَسْمَعْ .
فَقَالُوا: نَقُولُ كَاهِنٌ .
فَقَالَ: مَا هُوَ بِكَاهِنٍ، لَقَدْ رَأَيْتُ الْكُهَّانَ ، فَمَا هُوَ بِزَمْزَمَةِ الْكُهَّانِ .
فَقَالُوا نَقُولُ: مَجْنُونٌ .
فَقَالَ: مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَأَيْنَا الْجُنُونَ وَعَرَفْنَاهُ، فَمَا هُوَ بِخَنْقِهِ وَلَا تَخَالُجِهِ وَلَا وَسْوَسَتِه .
قَالُوا: فَنَقُولُ شَاعِرٌ .
قَالَ مَا هُوَ بِشَاعِرٍ قَدْ عَرَفْنَا الشِّعْرَ: بِرَجَزِهِ، وَهَزَجِهِ، وَقَرِيضِهِ، وَمَقْبُوضِهِ، وَمَبْسُوطِهِ فَمَا هُوَ بِالشِّعْرِ.
قَالُوا: فَنَقُولُ سَاحِرٌ، قَالَ: فَمَا هُوَ بِسَاحِرٍ: قَدْ رَأَيْنَا السُّحَارَ وَسِحْرَهُمْ، فَمَا هُوَ بِنَفْثِهِ وَلَا عُقَدِهِ ... ".
والله تعالى أعلم.