الحمد لله.
لا حرج في قراءة ما يتعلق بالمغالطات المنطقية؛ لأن المراد بذلك بيان أوجه الخطأ في الاستدلال، كالاعتماد على ما ليس دليلا أصلا، أو الخطأ في الاستنباط منه، وهذا من قبيل ما يذكره الأصوليون في "قوادح العلة" وما يذكره المصنفون في آداب البحث والمناظرة.
ولا حرج أيضا في دراسة المنطق الخالي من شوائب الفلسفة.
قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله : "ولما كان من المتوقع أن يواجه الدعاة إلى الحق، دعاةً إلى الباطل مضللين ، يجادلون بشبه فلسفية ، ومقدمات سوفسطائية، وكانوا لشدة تمرنهم على تلك الحجج الباطلة كثيرا ما يظهرون الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق، ويفحمون كثيرا من طلبة العلم الذين لم يكن معهم سلاح من العلم يدفع باطلهم بالحق، وكان من الواجب على المسلمين أن يتعلموا من العلم ما يتسنى لهم به إبطال الباطل وإحقاق الحق، على الطرق المتعارفة عند عامة الناس= حمل ذلك الجامعة – يعني الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة – على إنشاء كلية الدعوة وأصول الدين ، ومهمتها تخريج دعاة قادرين على تبليغ الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ، وعلى إقحام وإلزام الدعاة المضللين ببيان ما يصحح أدلتهم، ويظهر بطلان حجج خصومهم .
ومن أجل ذلك قررت في منهج هذه الكلية تدريس مادة ( آداب البحث والمناظرة ) لأنه هو العلم الذي يقدر به من تعلمه على بيان مواضع الغلط في حجة خصمه ، وعلى تصحيح مذهبه، بإقامة الدليل المقنع على صحته، أو صحة ملزومه، أو بطلان نقيضه ونحو ذلك .
ومن المعلوم أن المقدمات التي تتركب منها الأدلة التي يحتج بها كل واحد من المتناظرين، إنما توجه الحجة بها منتظمة على صورة القياس المنطقي.
ومن أجل ذلك كان فن آداب البحث والمناظرة يتوقف فهمه - كما ينبغي - على فهم ما لا بد منه من فن المنطق؛ لأن توجيه السائل المنع على المقدمة الصغرى أو الكبرى مثلا، أو القدح في الدليل بعدم تكرار الحد الوسط، أو باختلال شرط من شروط الإنتاج، ونحو ذلك لا يفهمه من لا إلمام له بفن المنطق .
وكانت الجامعة قد أسندت إلينا تدريس فن آداب البحث والمناظرة ، وكان لا بد من وضع مذكرة تمكن طلاب الفن من مقصودهم؛ فوضعنا هذه المذكرة، وبدأناها بإيضاح القواعد التي لا بد منها من فن المنطق لآداب البحث والمناظرة ، واقتصرنا فيها على المهم الذي لا بد منه للمناظرة.
وجئنا بتلك الأصول المنطقية خالصة من شوائب الشبه الفلسفية ، فيها النفع الذي لا يخالطه ضرر ألبتة؛ لأنها من الذي خلصه علماء الإسلام من شوائب الفلسفة، كما قال العلامة شيخ مشايخنا، وابن عمنا ، المختار بن بونة ، شارح الألفية ، والجامع معها ألفية أخرى من نظمه تكميلا للفائدة ، في نظمه في فن المنطق :
فإن تَقُل حَرّمَه النواوي *** وابن الصلاح والسيوطِيْ الراوي
قلنا: ترى الأقوال ذي المخالِفة *** محلُّها ما صنفَ الفلاسفة
أما الذي خَلَّصَه مَن أسلما *** لا بد أن يُعلَمَ عند العلما
وأما قول الأخضري في سلمه :
فابن الصلاح والنواوي حرَّما *** وقال قوم ينبغي أن يُعلَما
والقولة المشهورة الصحيحة *** جوازُه لكامل القريحة
ممارسُ السنةِ والكتابِ *** ليهتدي به إلى الصواب
فمحله المنطق المشوب بكلام الفلاسفة الباطل .
ومن المعلوم أنَّ فنَّ المنطق منذ ترجم من اللغة اليونانية إلى اللغة العربية في أيام المأمون، كانت جميع المؤلفات توجد فيها عبارات واصطلاحات منطقية لا يفهمها إلا مَن له إلمامٌ به ، ولا يفهم الرد على المنطقيين في ما جاؤوا به من الباطل، إلا مَن له إلمام بفن المنطق .
وقد يعين على رد الشبه التي جاء بها المتكلمون في أقيسة منطقية ، فزعموا أن العقل يمنع بسببها كثيرا من صفات الله الثابتة في الكتاب والسنة ؛ لأن أكبر سبب لإفحام المبطِل، أن تكون الحجة عليه من جنس ما يحتج به ، وأن تكون مركبة مِن مقدمات على الهيئة التي يعترف الخصم المبطل بصحة إنتاجها .
ولا شك أن المنطق لو لم يترجم إلى العربية ، ولم يتعلمه المسلمون لكان دينهم وعقيدتهم في غنى عنه ، كما استغنى عنه سلفهم الصالح ، ولكنه لما ترجم وتُعُلم، وصارت أقيسته هي الطريق الوحيدة لنفي صفات الله الثابتة في الوحيين؛ كان ينبغي لعلماء المسلمين أن يتعلموه، وينظروا فيه، ليردوا حجج المبطلين بجنس ما استدلوا به على نفيهم لبعض الصفات؛ لأن إفحامهم بنفس أدلتهم أدعى لانقطاعهم، وإلزامهم الحق .
واعلم أن نفس القياس المنطقي في حد ذاته صحيح النتائج، إن ركبت مقدماته على الوجه الصحيح صورة ومادة.
ومع شروط إنتاجه: فهو قطعي الصحة.
وإنما يعتريه الخلل من جهة الناظر فيه، فيغلط ، فيظن هذا الأمر لازما لهذا مثلا ، فيستدل بنفي ذلك اللازم في زعمه، على نفي ذلك الملزوم ، مع أنه لا ملازمة بينهما في نفس الأمر ألبتة " انتهى من "آداب البحث والمناظرة" (ص/3-5).
وانظر في حكم دراسة المنطق والفلسفة: جواب السؤال رقم: (119899)، ورقم: (88184).
والله أعلم.