الحمد لله.
كان وقع خبر موت النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابة رضي الله عنهم عظيما، فمنهم من دهش، ومنهم من أقعد، ومنهم من أنكر موته، واضطرب حالهم .
وكان أبو بكر رضي الله عنه غائبا، فلما حضر ودخل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو مسجى بثوب، كشف عن وجهه، وقبله، وخرج إلى الناس، وأخبرهم بموته صلى الله عليه وسلم، وتلا قول الله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ آل عمران/144 ، فأيقن الناس أنه قد مات.
روى البخاري (3667) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَاتَ وَأَبُو بَكْرٍ بِالسُّنْحِ، - يَعْنِي بِالعَالِيَةِ - فَقَامَ عُمَرُ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: وَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ مَا كَانَ يَقَعُ فِي نَفْسِي إِلَّا ذَاكَ - وَلَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ، فَلَيَقْطَعَنَّ أَيْدِيَ رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ .
فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ، فَكَشَفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَّلَهُ، قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يُذِيقُكَ اللَّهُ المَوْتَتَيْنِ أَبَدًا، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: أَيُّهَا الحَالِفُ عَلَى رِسْلِكَ، فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ جَلَسَ عُمَرُ، فَحَمِدَ اللَّهَ أَبُو بَكْرٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَلا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ، وَقَالَ: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) ، وَقَالَ: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) .
فَنَشَجَ النَّاسُ يَبْكُونَ ".
وروى النسائي في "السنن الكبرى" (7081) عَنْ سَالِمِ بْنِ عُبَيْدٍ، قَالَ: " لَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ عُمَرُ: لَا يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ بِمَوْتِهِ إِلَّا ضَرَبْتُهُ بِسَيْفِي هَذَا، فَسَكَتُوا وَكَانُوا قَوْمًا أمِّيِّينَ، لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ نَبِيٌّ قَبْلَهُ قَالُوا: يَا سَالِمُ اذْهَبْ إِلَى صَاحِبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَادْعُهُ .
قَالَ: فَخَرَجْتُ فَوَجَدْتُ أَبَا بَكْرٍ، قَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَاتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قُلْتُ: إِنَّ عُمَرَ يَقُولُ: لَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ بِمَوْتِهِ إِلَّا ضَرَبْتُهُ بِسَيْفِي هَذَا، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى سَاعِدَيْ ثُمَّ أَقْبَلَ يَمْشِي حَتَّى دَخَلَ . قَالَ: فَوَسَّعُوا لَهُ حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَكَبَّ عَلَيْهِ، حَتَّى كَادَ أَنْ يَمَسَّ وَجْهُهُ وَجْهَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى اسْتَبَانَ لَهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ، قَالُوا: يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَاتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَعَلِمُوا أَنَّهُ كَمَا قَالَ ".
وصححه البوصيري في "الزوائد" (2/ 534).
وروى البخاري (1241) عن ابْن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: " أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُكَلِّمُ النَّاسَ، فَقَالَ: اجْلِسْ ، فَأَبَى، فَقَالَ اجْلِسْ ، فَأَبَى، فَتَشَهَّدَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَمَالَ إِلَيْهِ النَّاسُ، وَتَرَكُوا عُمَرَ، فَقَالَ:
" أَمَّا بَعْدُ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ، فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) إِلَى (الشَّاكِرِينَ) آل عمران/144 " .
وَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهَا حَتَّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ، فَمَا يُسْمَعُ بَشَرٌ إِلَّا يَتْلُوهَا.
وقال ابن رجب رحمه الله:
" لما توفي صلى الله عليه وسلم اضطرب المسلمون، فمنهم من دهش، فخولط، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من اعتقل لسانُه، فلم ينطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية، وقال: إنما بعث إليه كما بعث إلى موسى، وكان من هؤلاء عمر، وبلغ الخبر أبا بكر فأقبل مسرعا حتى دخل بيت عائشة ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجى، فكشف عن وجهه الثوب، وأكب عليه، وقبل جبهته مرارا وهو يبكي، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، مات والله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد متها.
ثم دخل المسجد وعمر يكلم الناس وهم مجتمعون عليه، فتكلم أبو بكر وتشهد وحمد الله، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فقال: "من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت" ، وتلا: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران: 144] الآية، فاستيقن الناس كلهم بموته، وكأنهم لم يسمعوا هذه الآية من قبل أن يتلوها أبو بكر، فتلقاها الناس منه، فما يُسمع أحد إلا يتلوها "
انتهى من "لطائف المعارف" (ص 110) .
ولعل أخصر ما يصف حال مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ، وما فيها ، ومن فيها ، حين موت النبي صلى الله عليه وسلم ، ما رواه عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ:
" لَمَّا كَانَ اليَوْمُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ : أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ . فَلَمَّا كَانَ اليَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ : أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ .
وَمَا نَفَضْنَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأَيْدِي ، وَإِنَّا لَفِي دَفْنِهِ ، حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا" .
رواه الترمذي (3618) ، وقال : "هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ" ، وصححه الألباني .
والله أعلم.