الحمد لله.
أولا:
رواة الحديث ليسوا على درجة واحدة في الحفظ والإتقان ، فمنهم الثقة الثبت الحجة ، ومنهم الثقة الذي استنكر عليه علماء الحديث بعض الأحاديث ، ومنهم من له أوهام ، ومنهم من هو كثير الغلط ، ومنهم المتروك ، ومنهم المتهم ، ومنهم الكذاب .
قال الذهبي في "الموقظة" (ص81) :" الثقاتُ طَبَقات: فليس مَنْ وُثِّق مطلقاً، كَمَنْ تُكُلِّمَ فيه ، وليس مَن تُكُلِّم في سُوءِ حفظِه واجتهادِه في الطَّلَب كَمَنْ ضعَّفوه ، ولا مَن ضعَّفوه ورَوَوْا له كَمَنْ تركوه ، ولا مَن تركوه كَمَنْ اتَّهموه وكذَّبوه ". انتهى.
وربما وقع بعض طلاب العلم في الخلط بين مراتب الرواة لعدم معرفة دلالات ألفاظ الجرح والتعديل ، والخلط بينها .
ومن الأخطاء الشهيرة في هذا المقام: عدم التمييز بين قول أهل العلم في راو :" له مناكير " ، أو " له أوهام " ، أو " روى مناكير " ، وقولهم في راو :" منكر الحديث " ، أو " أحاديثه مناكير " ، أو " يروي المناكير " .
والفرق بينهما: أن الأول الأصل فيه الضبط ، إلا أنه وهم في عدة أحاديث ، استنكرها العلماء عليه ، وعدوها من أخطائه وأوهامه ، ولذا يقولون فيه : " له مناكير " ، أو " له أوهام " ، أو " روى مناكير " .
أما الثاني: فكثرت أخطاؤه وأوهامه ، حتى غلب هذا على حديثه ، فيقال له :" منكر الحديث " ، أو " أحاديثه مناكير " ، أو " يروي المناكير " .
قال ابن القطان في "أحكام النظر" (ص480) :" وفرق عند المحدثين بأن يقولوا روى مناكير ، أو منكر الحديث .
منكر الحديث: هو الذي يقولونه لمن سقطت الثقة بما يروي ، لكثرة المنكرات على لسانه ، كالذي يشتهر فيما بيننا بقلة التوقي فيما يحدِّث به ، وتتكرر فضيحته ، حتى يكون إذا سمعنا حديثًا منكرًا ، نقول: فلان حدَّث به .. لما قدم به عَهدُنا من نكارة حديثه ؛ فهذا عندهم هو الذي يطلقون عليه أنه منكر الحديث ، ولا تحل الرواية عنه.
أما الذي يقولون فيه: عنده مناكير، أو روى أحاديث منكرة ، فإنه رجل روى ما لا يعرفه غيره، وحاله مع ذلك صالحة ، فهذا لا يضره الانفراد، لا أن يكثر منه ". انتهى
وقال ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام" (3/247) :" قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله أحمدَ بنَ حنبل يقول: مصعب بن شيبة روى أحاديث مناكير .. وقول أحمد: روى أحاديث مناكير ، لا يقتضي بمُجرَّده تركَ روايته ، حتى تكثرَ المناكير في روايته ، وينتهيَ إلى أن يقال فيه: منكر الحديث ". انتهى.
وهذا الوهم والنكارة إنما يوصف به حديث الرجل، إذا تفرد في روايته بأشياء لم يتابعه عليها أحد ، أو خالف الثقات في روايته ، فإذا كانت أوهامه معدودة معروفة ، قيل عنه :" له مناكير " ، فإذا كثر تفرده ، أو كثرت مخالفته ، قيل فيه :" منكر الحديث ".
قال الذهبي في "ميزان الاعتدال" (3/140) :" بل الثقة الحافظ، إذا انفرد بأحاديث كان أرفع له ، وأكمل لرتبته ، وأدل على اعتنائه بعلم الاثر ، وضبطه دون أقرانه لأشياء ما عرفوها . اللهم إلا أن يتبين غلطه ووهمه في الشيء، فيعرف ذلك .
فانظر أول شيء إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبار والصغار ، ما فيهم أحد إلا وقد انفرد بسنة ، فيقال له: هذا الحديث لا يتابع عليه ؟!
وكذلك التابعون ، كل واحد عنده ما ليس عند الآخر من العلم .
وما الغرض هذا ، فإن هذا مقرر على ما ينبغي في علم الحديث . وأن تفرد الثقة المتقن : يعد صحيحا غريبا. وأن تفرد الصدوق ومن دونه : يعد منكرا ، وأن إكثار الراوي من الأحاديث التي لا يوافق عليها لفظا أو إسنادا : يصيره متروك الحديث ". انتهى.
ثانيا:
حكم من قيل فيه :" منكر الحديث " ، أنه لا تحل الرواية عنه ، لأنه فاحش الخطأ .
قال الإمام مسلم في "مقدمة صحيح مسلم" (1/6) :" وَالَّذِي نَعْرِفُ مِنْ مَذْهَبِهِمْ فِي قَبُولِ مَا يَتَفَرَّدُ بِهِ الْمُحَدِّثُ مِنَ الْحَدِيثِ : أَنْ يَكُونَ قَدْ شَارَكَ الثِّقَاتِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْحِفْظِ فِي بَعْضِ مَا رَوَوْا ، وَأَمْعَنَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْمُوَافَقَةِ لَهُمْ ، فَإِذَا وُجِدَ كَذَلِكَ ، ثُمَّ زَادَ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا لَيْسَ عِنْدَ أَصْحَابِه:ِ قُبِلَتْ زِيَادَتُهُ .
فَأَمَّا مَنْ تَرَاهُ يَعْمِدُ لِمِثْلِ الزُّهْرِيِّ فِي جَلَالَتِهِ ، وَكَثْرَةِ أَصْحَابِهِ الْحُفَّاظِ الْمُتْقِنِينَ لِحَدِيثِه،ِ وَحَدِيثِ غَيْرِهِ ، أَوْ لِمِثْلِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، وَحَدِيثُهُمَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مَبْسُوطٌ مُشْتَرَكٌ ، قَدْ نَقَلَ أَصْحَابُهُمَا عَنْهُمَا حَدِيثَهُمَا، عَلَى الِاتِّفَاقِ مِنْهُمْ فِي أَكْثَرِهِ ؛ فَيَرْوِي عَنْهُمَا ، أَوْ عَنْ أَحَدِهِمَا ، الْعَدَدَ مِنَ الْحَدِيثِ ، مِمَّا لَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِمَا ، وَلَيْسَ مِمَّنْ قَدْ شَارَكَهُمْ فِي الصَّحِيحِ مِمَّا عِنْدَهُمْ = فَغَيْرُ جَائِزٍ قَبُولُ حَدِيثِ هَذَا الضَّرْبِ مِنَ النَّاسِ ". انتهى.
ثالثا:
أما من قيل فيه :" له مناكير " ، فكيف يُعرف أن هذا الحديث من مناكيره ؟
والجواب أنه هذا يعرف بأحد هذه الأمور :
الأول : أن ينصّ العلماء على أنه مما أُنكر عليه ، أو عدّه أهل العلم من مناكيره وأوهامه ، مثل أن يذكره ابن عدي في "الكامل" ، أو العقيلي في "الضعفاء" ، أو الذهبي في "ميزان الاعتدال" ، وغيرهم من أهل العلم .
قال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (2/257) :" وإنما أورد له أبو أحمد أحاديث، على عادته في سوق الأحاديث التي تُنكر على من يترجم باسمه ، أو ما يتيسر له منها ". انتهى
الثاني : أن ينفرد برواية حديث عن شيخ، دون أصحابه الأثبات فيه ؛ فهنا لا يُقبل تفرده ، كما سبق ذكره عن الإمام مسلم ؛ لأنه لا يحتمل ذلك .
قال ابن عبد البر في "التمهيد" (9/129) :" وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ سُلَيْمَانَ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحُجُّ عَنْ أَبِي ؟ قَالَ : نَعَمْ ؛ إِنْ لَمْ تَزِدْهُ ، خَيْرًا لَمْ تَزِدْهُ شَرًّا .
قَالَ أَبُو عُمَرَ : أَمَّا هَذَا الْحَدِيثُ فَقَدْ حَمَلُوا فِيهِ عَلَى عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، لِانْفِرَادِهِ بِهِ عَنِ الثَّوْرِيِّ ، مِنْ بَيْنِ سَائِرِ أَصْحَابِهِ ، وَقَالُوا : هَذَا حَدِيثٌ لَا يُوجَدُ فِي الدُّنْيَا عِنْدَ أَحَدٍ ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ ؛ إِلَّا فِي كِتَابِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، أَوْ فِي كِتَابِ مَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ كِتَابِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ . وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ عَنِ الثَّوْرِيِّ غَيْرُهُ . وَقَدْ خَطَّأُوهُ فِيهِ ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ خَطَأٌ ، فَقَالُوا : هَذَا لَفْظٌ مُنْكَرٌ ، لَا تُشْبِهُهُ أَلْفَاظُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ أَنْ يَأْمُرَ بِمَا لَا يَدْرِي ، هَلْ يَنْفَعُ ، أَمْ لَا يَنْفَعُ !!". انتهى.
وقال ابن رجب في "شرح علل الترمذي" (2/654) :" قال البرديجي: فأما أحاديث قتادة التي يرويها الشيوخ، مثل حماد بن سلمة ، وهمام ، وأبان ، والأوزاعي ؛ ننظر في الحديث ، فإن كان الحديث يُحفظ من غير طريقهم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أو عن أنس بن مالك من وجه آخر ؛ لم يُدفع . وإن كان لا يُعرف عن أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا من طريق عن أنس إلا من رواية هذا الذي ذكرت لك ؛ كان منكراً ". انتهى
ومطلق التفرد لا يُعد وهما ، ولا خطأ يُردُّ به الحديث ؛ بل الأمر فيمن تفرد ، هل يتحمل حاله ذلك ، أم لا ؟
فمثلا: إمام مثل الزهري لو تفرد بحديث ، أو عدة أحاديث : يُقبل منه ذلك ، لأنه إمام حجة حافظ ، واسع الرواية ؛ فيحتمل التفرد .
قال الإمام مسلم في "صحيحه" تحت حديث (1647) :" هَذَا الْحَرْفُ - يَعْنِي قَوْلَهُ : تَعَالَى أُقَامِرْكَ فَلْيَتَصَدَّقْ - : لَا يَرْوِيهِ أَحَدٌ غَيْرُ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: وَلِلزُّهْرِيِّ نَحْوٌ مِنْ تِسْعِينَ حَدِيثًا، يَرْوِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ بِأَسَانِيدَ جِيَادٍ ". انتهى.
قال ابن حجر في "النكت على ابن الصلاح" (2/674) :" أطلق الإمام أحمد والنسائي وغير واحد من النقاد: لفظ المنكر على مجرد التفرد ؛ لكن : حيث لا يكون المتفرد في وزن من يحكم لحديثه بالصحة بغير عاضد يعضده ". انتهى.
فإن روى حديثا لم يُعده أهل العلم من مناكيره ، ولم يخالَف فيه ، وتابعه أحد على روايته : كان حديثه حسنا ، وزالت النكارة .
فقد جاء في "مسائل الإمام أحمد" رواية عبد الله (179) قال عبد الله بن الإمام أحمد :" سَأَلت ابي رَحمَه الله : مَا الَّذِي يعْتَمد عَلَيْهِ فِي مَوَاقِيت الصَّلَاة من الْأَحَادِيث الَّتِي جَاءَت ، وَأي حَدِيث عنْدك أقوى ؟ والْحَدِيث الَّذِي روى ابْن الْمُبَارك ، عَن الْحُسَيْن بن عَليّ ، عَن وهب بن كيسَان ، عَن جَابر ؛ مَا ترى فِيهِ ؟ وَكَيف حَال الْحُسَيْن ؟
فَقَالَ أبي : أما الْحُسَيْن : فَهُوَ أخو أبي جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عَليّ ، وَحَدِيثه الَّذِي روى فِي الْمَوَاقِيت: حَدِيث لَيْسَ بالمنكر ، لِأَنَّهُ قد وَافقه على بعض صِفَاته غَيره ". انتهى.
وقال ابن رجب في "شرح علل الترمذي" (2/659) :" فتلخص من هذا : أن النكارة لا تزول عند يحيى القطان والإمام أحمد والبرديجي ، وغيرهم من المتقدمين : إلا بالمتابعة ". انتهى.
قال ابن حجر في "فتح الباري" (1/384) :" وَأما الْغَلَط : فَتَارَة يكثر من الرَّاوِي ، وَتارَة يقل ، فَحَيْثُ يُوصف بِكَوْنِهِ كثير الْغَلَط ، ينظر فِيمَا أخرج لَهُ ؛ إِن وجد مرويا عِنْده ، أَو عِنْد غَيره ، من رِوَايَة غير هَذَا الْمَوْصُوف بالغلط : عُلم أَن الْمُعْتَمد أصل الحَدِيث ، لَا خُصُوص هَذِه الطَّرِيق .
وإن لم يُوجد إِلَّا من طَرِيقه : فَهَذَا قَادِح يُوجب التَّوَقُّف عَن الحكم بِصِحَّة مَا هَذَا سَبيله ، وَلَيْسَ فِي الصَّحِيح بِحَمْد الله من ذَلِك شَيْء .
وَحَيْثُ يُوصف بقلة الْغَلَط ، كَمَا يُقَال : سيء الْحِفْظ أَوله أوهام ، أَو له مَنَاكِير ، وَغير ذَلِك من الْعبارَات : فَالْحكم فِيهِ ، كَالْحكمِ فِي الَّذِي قبله ". انتهى
قال الشيخ الألباني في "ضعيف سنن أبي داود" (2/272) في ترجمة راو :" قال الحافظ: " صدوق له أوهام ". قلت: فمثله قد يُحسن حديثُه ، إذا لم يخالف ". انتهى
وقال في "السلسلة الصحيحة" (6/216) :" وقد تفرد به عمران بن عيينة ، وفيه كلام من قبل حفظه ، وقد أشار لذلك الحافظ بقوله: " صدوق له أوهام "؛ فتصحيح حديثه غير مقبول ، وحسبه التحسين إذا لم يخالف ". انتهى.
والله أعلم .