قمت هذا العام بإمامة المصلين في صلاة التراويح، وعند قدوم آخر أيام الشهر الفضيل جاءني أحد الإخوة ووضع في يدي ٢٠٠ دينار، فقلت في نفسي: ما جاءك من غير إشراف نفس فخذه، فما حكم أخذ هذا المال والتصرف به؟ أعلم أنكم تقولون: إنه لا بأس بأخذ الأجرة على الإمامة، ولكن ما أريد معرفته هو: هل هذا المال إذا أخذته ينقص من أجر إمامتي للتراويح، فقد قال صلى الله عليه وسلم (ما يصيب العبد شيئاً من الدنيا إلا نقص من درجته ولو كان عند الله كريماً)، فهل هذا الحديث ينطبق على هذه الحالة أم لا؟ وهل تنصحوني بأخذ هذا المال والتصرف به، أم أن أتصدق به؟
الحمد لله.
لا حرج في أخذ الإمام ما يعطى له، ما لم يخش المنة من المعطي، ولا ينقص أجره بذلك.
قال ابن قدامة في "المغني" (2/9): "وَرُوِيَ عَنْهُ [أي عن أحمد] أَنَّهُ قَالَ : " لَا تُصَلُّوا خَلْفَ مَنْ لَا يُؤَدِّي الزَّكَاةَ، وَقَالَ : لَا تُصَلِّ خَلْفَ مَنْ يُشَارِطُ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَدْفَعُوا إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ " انتهى .
وقال البهوتي في "كشاف القناع" (1/475): "( فَإِنْ دُفِعَ إلَيْهِ ) أَيْ الْإِمَامِ ( شَيْءٌ بِغَيْرِ شَرْطٍ , فَلَا بَأْسَ، نَصًّا [أي : نص عليه الإمام أحمد]). وَكَذَا لَوْ كَانَ يُعْطَى مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ مِنْ وَقْفٍ" انتهى.
هذا مع كون الحنابلة يمنعون أخذ الأجرة على الإمامة، لكن لا يعتبرون العطية من غير مشارطة من الأجرة.
وقد سئل الشيخ عبد العزيز بن باز، رحمه الله: " ما حكم تحديد الإمام أجرة لصلاته بالناس، خصوصًا إذا كان يذهب لمناطق بعيدة ليُصلي بهم التراويح؟
فأجاب: " التحديد ما ينبغي، وقد كرهه جمعٌ من السلف، فإذا ساعدوه بشيءٍ غير محدد فلا حرج في ذلك.
أما الصلاة فصحيحة لا بأس بها -إن شاء الله- ، ولو حدَّدوا له مساعدةً؛ لأن الحاجة قد تدعو إلى ذلك.
لكن ينبغي ألا يفعل ذلك، وأن تكون المساعدة بدون مشارطة، هذا هو الأفضل والأحوط كما قاله جمعٌ من السلف حمة الله عليهم." انتهى،.
وأما حديث: "لا يُصيبُ عبدٌ مِنَ الدُّنيا شيْئاً إلا نَقَص مِنْ دَرَجاتِهِ عندَ الله؛ وإنْ كانَ عليه كَريِماً"، فالصواب أنه من قول ابن عمر رضي الله عنهما، ثبت ذلك عنه، ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله. قال الألباني، رحمه الله، في "صحيح الترغيب والترهيب": " رواه ابن أبي الدنيا، وإسناده جيد، وروي عن عائشة مرفوعاً، والموقوف أصح" انتهى.
ثم إن هذا لا يختص بالأجرة أو العطية، وإنما هو في كل تمتع بالدنيا، وهو محمول على من يصيب من الدنيا بغير حق، أو من لا يؤدي شكر ما أخذ منها.
قال ابن الجوزي، رحمه الله:
" بقدر صعود الإنسان في الدنيا تنزل مرتبته في الآخرة. وقد صرح بهذا ابن عمر رضي الله عنه، فقال: والله، لا ينال أحد من الدنيا شيئًا، إلا نقص من درجاته عند الله، وإن كان عنده كريمًا.
فالسعيد من اقتنع بالبلغة، فإن الزمان أشرف من أن يضيع في طلب الدنيا، اللهم إلا أن يكون متورعًا في كسبه، معينًا لنفسه عن الطمع، قاصدًا إعانة أهل الخير، والصدقة على المحتاجين، فكسب هذا أصلح من بطالته.
فأما الصعود الذي سببه مخالطة السلاطين، فبعيد أن يسلم معه الدين، فإن وقعت سلامته ظاهرًا، فالعاقبة خطرة." انتهى من"صيد الخاطر"(298).
وأخذ الأجرة على أعمال الطاعات المتعدية، كتعليم العلم والقرآن: لا يمنع حصول الثواب، ولعله ألا ينقص ثوابه، إذا حسن قصده، وخلصت نيته، وكان إنما يأخذ ذلك ليتمكن من التفرغ للنفع والتعليم. ولم يكن قصده من هذا العمل مجرد الحظ الدنيوي، وجمع المال.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: " وجماع هذا: أن المستحب أن يأخذ ليحج، لا أن يحج ليأخذ.
وهذا في جميع الأرزاق المأخوذة على عمل صالح؛ فمن ارتزق ليتعلم، أو ليعلم، أو ليجاهد؛ فحسن. كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: مثل الذين يغزون من أمتي، ويأخذون أجورهم؛ مثل أم موسى: ترضع ابنها، وتأخذ أجرها؛ شبههم بمن يفعل الفعل لرغبة فيه، كرغبة أم موسى في الإرضاع؛ بخلاف الظئر المستأجرة على الرضاع إذا كانت أجنبية.
وأما من اشتغل بصورة العمل الصالح لأن يُرتزق؛ فهذا من أعمال الدنيا.
ففرق بين من يكون الدين مقصودَه، والدنيا وسيلة. ومن تكون الدنيا مقصوده، والدين وسيلة. والأشبه أن هذا ليس له في الآخرة من خلاق. كما دلت عليه نصوص ليس هذا موضعها." انتهى من "مجموع الفتاوى"(26/20).
وقد سئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء: ما حكم أخذ الأجرة على تحفيظ القرآن الكريم للأطفال الصغار؟ وإذا أفتيتم بالجواز فهل للمعلم ثواب عند الله بعد أخذه للأجرة الشهرية؟
فأجابوا: " تعلم القرآن الكريم وتعليمه من أفضل القرب إلى الله جل وعلا، إذا صلحت النية ، وقد حث النبي -صلى الله عليه وسلم- على تعلم القرآن وتعليمه بقوله: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).
وأخذ معلمي القرآن الأجرة على تعليمه لا ينافي حصول الثواب والأجر من الله جل وعلا، إذا خلصت النية.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز... عبد العزيز آل الشيخ... عبد الله بن غديان ... صالح الفوزان... بكر أبو زيد " انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة" (15/99).
والله أعلم.