إذا ارتكب المرء الكبائر والصغائر من الذنوب ، فهل ما زال بالإمكان أن يدخل الجنة بغير حساب طالما أنه لا يطلب الرقية من أحد ، ولا يكتوي بالنار ، ويتوكل على الله وحده ؟
الحمد لله.
من ارتكب الصغائر والكبائر فيمكنه أن يدخل الجنة بغير حساب إذا تاب وأناب، فإن الله تعالى يبدل سيئات التائب إلى حسنات ولو كان قد اقترف الشرك والقتل والزنى، كما قال: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً الفرقان/68 - 70.
فما على مقترف الذنوب إلا التوبة وسؤال الله تعالى القبول ودخول الجنة بغير حساب.
وأما من لقي الله بالكبائر دون توبة: فهو في مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له؛ لقول الله تعالى : إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ النساء / 48 .
قال ابن جرير الطبري رحمه الله : وقد أبانت هذه الآية أنّ كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله ، إن شاء عفا عنه ، وإن شاء عاقبه عليه ، ما لم تكن كبيرته شركًا بالله " انتهى من "تفسير الطبري" (8 / 450) .
وقد سبق في جواب السؤال رقم : (174528) أن ظواهر الأدلة الشرعية تقرر أن الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب هم السابقون بالخيرات، وليسوا المقتصدين، فضلا عن الظالمين لأنفسهم.
ومن ذلك: ما روى أحمد عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ) فاطر/32، فَأَمَّا الَّذِينَ سَبَقُوا بِالْخَيْرَاتِ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ، وَأَمَّا الَّذِينَ اقْتَصَدُوا فَأُولَئِكَ يُحَاسَبُونَ حِسَابًا يَسِيرًا ، وَأَمَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ يُحَاسَبُونَ فِي طُولِ الْمَحْشَر ، ثُمَّ هُمُ الَّذِينَ تَلَافَاهُمُ اللهُ بِرَحْمَتِهِ ، فَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ فاطر/34، إِلَى قَوْلِهِ : ( لُغُوبٌ ) فاطر/35 .
وعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنه قال في تفسير الآية :"هم أمة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، ورثهم الله كل كتاب أنزله ؛ فظالمهم يغفر له ، ومقتصدهم يحاسب حسابًا يسيرًا ، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب" رواه ابن جرير الطبري في تفسيره (20/465).
وعن أَبي وائل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال :"هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة ؛ ثلث يدخلون الجنة بغير حساب ، وثلث يحاسبون حسابًا يسيرًا ، وثلث يجيئون بذنوب عظام حتى يقول : ما هؤلاء ؟ وهو أعلم تبارك وتعالى ، فتقول الملائكة : هؤلاء جاءوا بذنوب عظام ، إلا أنهم لم يشركوا بك ، فيقول الرب : أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي ، وتلا عبد الله هذه الآية : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا )" رواه ابن جرير الطبري في تفسيره (20/465).
وصاحب الكبيرة إذا لقي الله بها من غير توبة، فهو ظالم لنفسه، وهذا يحاسب، ويوازن بين حسناته وسيئاته، فإن رجحت سيئاته ، كان من أهل النار ، إلا أن يعفو الله عنه.
وقد يحاسب حسابا يسيرا، فيقرره الله بذنوبه، ثم يعفو عنه.
قال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله :
" س : ما الجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث : فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه [ متفق عليه ] ، وبين ما تقدم من أن من رجحت سيئاته بحسناته دخل النار ؟
جـ : لا منافاة بينهما ، فإن من يشأ الله أن يعفو عنه ، يحاسبه الحساب اليسير الذي فسره النبي صلى الله عليه وسلم بالعرض ، وقال في صفته : يدنو أحدكم من ربه عز وجل حتى يضع عليه كنفه فيقول : عملت كذا وكذا ، فيقول : نعم ، ويقول : عملت كذا وكذا ، فيقول : نعم . فيقرره ثم يقول : إني سترت عليك في الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم [ متفق عليه ] .
وأما الذين يدخلون النار بذنوبهم فهم ممن يناقش الحساب ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : من نوقش الحساب عذب [ متفق عليه ] " انتهى من "أعلام السنة المنشورة" (171).
وقال الشيخ ابن باز رحمه في بيان صفة من يدخل الجنة بغير حساب: " بينهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم المستقيمون على دين الله، السبعون ألفا، ومع كل ألف سبعون ألفا.
مقدم هذه الأمة المؤمنة، مقدموهم يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر. وهم الذين جاهدوا أنفسهم لله، واستقاموا على دين الله، أينما كانوا في أداء الفرائض، وترك المحارم، والمسابقة إلى الخيرات.
ومن صفاتهم: لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون" انتهى من "مجموع فتاوى ابن باز" (28/ 60).
والحديث قد بين أنهم على ربهم يتوكلون، حتى إنهم يستغنون عن بعض حاجاتهم توكلا على الله، وهذا من تمام توكلهم، ولا شك أن من حقق كمال التوكل على الله لا يكون مصرا على كبيرة من كبائر الذنوب .
والحاصل :
أن من أراد دخول الجنة بغير حساب فليحذر الكبائر، وليبادر إلى التوبة النصوح إن زل في شيء منها.
والله أعلم.