الحمد لله.
المحرم مخير بين الحلق والتقصير، لقوله تعالى: لقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ الفتح/27، ولدعاء النبي صلى الله عليه وسلم للمحلقين والمقصرين.
واختلف الفقهاء فيمن لبد رأسه أو ضفره أو عقصه هل يلزمه الحلق، أم يبقى على التخيير؟
والصحيح أنه مخير.
واحتج من أوجب الحلق بحديث : (من لبد رأسه فليحلق) وقد رواه البيهقي وضعفه.
والصحيح أنه من قول عمر وابنه، وقد عارضهما غيرهما من الصحابة، فيبقى الأمر على أصل التخيير.
ومن الفقهاء من أوجب الحلق، لتعذر التقصير على من لبد أو ضفر، والواقع يشهد أنه غير متعذر.
روى البيهقي في "السنن" (5/ 220) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " مَنْ لَبَّدَ أَوْ ضَفَّرَ أَوْ عَقَصَ فَلْيَحْلِقْ " .
قال البيهقي: "هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عَنْ عَبْدِ اللهِ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، مِنْ قَوْلِهِ ، وَعَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ".
ثم روى عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ لَبَّدَ رَأْسَهُ فَلْيَحْلِقْ، فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحِلَاقُ ).
قال: "أَخْبَرَنَاهُ أَبُو سَعْدٍ الصُّوفِيُّ ، أنبأ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ ثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْمَدَائِنِيُّ ، ثنا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ نَافِعٍ ، عَنْ عَاصِمٍ ، فَذَكَرَهُ . وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ ضَعِيفٌ ، وَلَا يَثْبُتُ هَذَا مَرْفُوعًا" انتهى.
قال ابن قدامة في "المغني" (3/ 386): " واختلف أهل العلم في من لبد، أو عقص، أو ضفر. فقال أحمد: من فعل ذلك فليحلق. وهو قول النخعي، ومالك، والشافعي، وإسحاق.
وكان ابن عباس يقول: من لبد، أو ضفر، أو عقد، أو فتل، أو عقص، فهو على ما نوى. يعني إن نوى الحلق فليحلق، وإلا فلا يلزمه.
وقال أصحاب الرأي: هو مخير على كل حال؛ لأن ما ذكرناه يقتضي التخيير على العموم، ولم يثبت في خلاف ذلك دليل.
واحتج من نصر القول الأول، بأنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من لبد فليحلق .
وثبت عن عمر وابنه أنهما أمرا من لبد رأسه أن يحلقه.
وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبد رأسه ، وأنه حلقه.
والصحيح : أنه مخير، إلا أن يثبت الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقول عمر وابنه : قد خالفهما فيه ابن عباس.
وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - له لا يدل على وجوبه، بعدما بين لهم جواز الأمرين" انتهى.
وقال في "طرح التثريب" (5/ 116): " وذهب أبو حنيفة إلى بقاء التخيير في حقه أيضا ، وأنه لا فرق بين الملبد وغيره . وحكاه ابن المنذر عن أصحاب الرأي . وحكاه النووي في شرح المهذب عن ابن عباس . وهو قول الشافعي في الجديد ، وهو الصحيح عند أصحابه.
وما حكاه ابن المنذر هو قوله في القديم.
وتمسك الأولون بما روي من طريق عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر أنه - عليه الصلاة والسلام - قال من لبد رأسه فليحلق .
وجعل أصحابنا المعنى في ذلك أن التلبيد لا يفعله إلا من يريد الحلق يوم النحر للنسك: فينزل هذا منزلة نذر الحلق.
وجعل المالكية سبب ذلك تعذر التقصير، وقالوا: لا يمكن التقصير مع التلبيد. قال ابن شاس في الجواهر: ويقوم التقصير مقام الحلق، حيث يتمكن من الإتيان به على وجهه . وقد يتعذر للعجز عن ذلك ، فيتعين الحلق ، كمن لا شعر على رأسه ، أو شعره لطيف لا يمكن تقصيره ، أو لبد شعره ، مثل أن يجعل الصمغ في الغسول ، ثم يلطخ به رأسه عند الإحرام ، أو عقصه ، أو ضفره ، فإنه لا بد من الحلق في جميع هذه انتهى.
وفي ذكره ، مع ذلك، من لا شعر على رأسه ، نظر؛ فإن هذا لا يتأتى في حقه حلق ولا تقصير.
ومسألة العقص والضفر: أشكل من التلبيد، فإنه لا يتعذر مع ذلك التقصير بلا شك، بل ولا يتعذر مع التلبيد، والعِيان يدفعه، وهذا خلاف في شهادة، والمدرك الذي ذكره أصحابنا أقرب، والله أعلم" انتهى.
وقد نسب القول بوجوب الحلق إلى الحنابلة والمالكية.
والمذهب عند الحنابلة عدم الوجوب.
قال في "الإنصاف" (4/ 38): " شمل كلام المصنف : الشعر المضفور والمعقوص والملبد ، وغيرها ، وهو صحيح ، وهو المذهب" انتهى.
وقال في "شرح المنتهى" (1/ 586): " ومن لبد رأسه أو ضفره أو عقصه : فكغيره" انتهى.
وأما المالكية فكما قال.
قال الدسوقي: " (قوله: والتقصير مُجزٍ) أي إن لم يكن لبد شعره، وإلا تعين الحلق.
ونص المدونة: ومن ضفر أو عقص، أو لبد : فعليه الحلاق. ومثله في الموطإ.
وعلله ابن الحاجب ، تبعا لابن شاس : بعدم إمكان التقصير، ورده في التوضيح بأنه يمكن أن يغسله، ثم يقصر.
وإنما علل علماؤنا تعيّن الحلق في حق هؤلاء بالسنّة" انتهى من "حاشية الدسوقي" (2/ 46).
والحاصل : أن إيجاب الحلق اجتهاد من عمر وابنه رضي الله عنهما، إن ثبت ذلك عنهما ، وهو معارض باجتهاد غيرهما كابن عباس رضي الله عنهما.
ولهذا فالراجح عدم الوجوب، وأن المحرم مخير بين الحلق والتقصير مطلقا.
والله أعلم.