قد حلفت أن لا أسمع أغاني ، وإن سمعتها أصوم اليوم الذي يليه ، فذكرت أنني حنثت سابقاً ، فلا أعلم هل وقع التكرار هنا أو لا ، ولكنني سمعت كثيراً ، ولم أصم ، فسمعت حديث : ( لا دين لمن لا عهد له ) فضاق صدري كثيراً ، حيث إنني قرأت وقيل : يحتمل أن يراد به الحقيقة ، فإن من اعتاد هذه الأمور لم يؤمن عليه أن يقع ثاني الحال في الكفر كما في الحديث : ( من يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ) ، فهل فعلاً عندما أستمع للأغاني أو كوني حنثت فأكون بهذا قد وقعت في الكفر ـ والعياذ بالله ـ ؟ كما آمل أن تشرحوا لي هذا الحديث ، وأيضاً الحديث : (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة : رجل أعطى بي ثم غدر ) هل نقضي للحلف يقتضي هذا المفهوم ؟
الحمد لله.
أولا:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: " مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَالَ: لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ رواه الإمام أحمد في "المسند" (19 / 376)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (2 / 1205)، وحسنه محققو المسند.
هذا الحديث ظاهره ينفي الإيمان والدين عن خائن الأمانة والمخلف للعهد .
غير أن المتقرر عند أهل السنة والجماعة : أن مجرد إخلاف العهد ، وخيانة الأمانة : ليس ناقضا من نواقض الإيمان بنفسه ، ولا هو مما يخرج العبد من دائرة الإسلام ، ويوقعه في دائرة الكفر ، والعياذ بالله ؛ بل هو معصية كسائر المعاصي ، وكبير من الكبائر التي لا تنقض إيمان العبد. وهذا أصل ثابت مقرر ، مجمع عليه عند أهل السنة والجماعة .
غير أن هذه الصيغة الواردة في الحديث تدل على أن هذه المعصية من كبائر الذنوب .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" ومن أصول أهل السنة: ... لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر، كما يفعله الخوارج؛ بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي، كما قال سبحانه وتعالى في آية القصاص: ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ )، وقال: ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ). " انتهى من "مجموع الفتاوى" (3 / 151).
وعلى ذلك ، فيحمل نفي الإيمان والدين في هذا الحديث ، ونحوه : على نفي كمال الإيمان الواجب ، وضعفه.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى في شرح حديث ( لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ... ):
" النبي صلى الله عليه وسلم نفى الإيمان عن فاعل هذه الأعمال.
واختلف العلماء في تخريج هذا الحديث:…
القول الثالث: يقولون: إنه ينتفي عنه كمال الإيمان، وأن المعنى: لا يزني حين يزني وهو مؤمن؛ أي: مؤمن كامل الإيمان، ولكن معه مطلق الإيمان، وهذا القول هو قول أهل السنة والجماعة، وقالوا: إن هذه الأعمال التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم : ليست أعظم من قتل النفس بغير حق عمدا، ومع ذلك لا يخرج الإنسان من الإيمان بقتل المؤمن عمدا؛ لقوله الله تبارك وتعالى: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ ). ويثبت القصاص إذا كان القتل عمدا، وفي الأخير قال: ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ). ولو كان يكفر لم تثبت الأخوة؛ لأن الأخوة الإيمانية لا تثبت مع الكفر أبدا، وإنما تثبت مع المعاصي التي لا تخرج من الكفر " انتهى من “شرح صحيح مسلم" (1 / 175 - 176).
ومن ضعف إيمانه الواجب فهو مسلم ظالم لنفسه معرض لها للعذاب على ما تركه من واجبات، إلا أن يتداركه الله برحمته وعفوه.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
“ فإن قال قائل: وما حكم العمل إذا نُفِي الكمال مع وجوده؟
قلنا: القاعدة عند العلماء: أن ما رُتِّب عليه نفي الإيمان ، فإنه يكون من كبائر الذنوب " انتهى. “شرح صحيح مسلم" (1 / 177).
فالحاصل؛ أن المسلم لا يكفر بمجرد معصية إخلاف العهد وخيانة الأمانة، لكنه وقع في ذنب كبير عليه أن يسارع إلى التوبة منه.
ثانيا:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: قَالَ اللَّهُ: ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ رواه البخاري (2227 ).
والظاهر من سياق الحديث أن قوله صلى الله عليه وسلم: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ أن هذا متعلق بمن يعاهد الناس ، مؤكدا عهده بالحلف بالله تعالى، ثم ينقض عهده فيغدر بمن عاهده.
قال أبو المظفر يحيى بن هبيرة رحمه الله تعالى:
" وبيان ذلك: أن الذي أعطى به ثم غدر، إنما أعطى عهده بالله جل جلاله، فكان الموافق إليه قد رضي بالله كفيلاً ، معتمدًا على أنه إن وفي له، وإلا ؛ فالله سبحانه المقابل له والمتولي مكافأته، فلما غدر به ، انتقلت الخصومة من البشر إلى خالق البشر سبحانه " انتهى من "الإفصاح" (7 / 330).
وقال المناوي رحمه الله تعالى:
" ( رَجُلٌ أَعْطَى بِي ) أي أعطى الأمان باسمي ، أو بذكري ، أو بما شرعته من الدين ، كأن يقول : عليك عهد الله أو ذمته .
( ثُمَّ غَدَرَ ) أي نقض العهد الذي عاهد عليه؛ لأنه جعل الله كفيلا له فيما لزمه من وفاء ما أعطى، والكفيل خصم المكفول به " انتهى من "فيض القدير" (3 / 316).
ثالثا:
أما اليمين التي حلفتها ، وحنثت فيها فعليك كفارة يمين ، وهي : إطعام عشرة مساكين ، أو كسوتهم، فإن لم تستطع فصيام ثلاثة أيام.
قال الله تعالى : لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ المائدة /89.
ولمزيد الفائدة عن كيفية الكفارة راجع جواب السؤال رقم : (45676).
وأما قولك : (إن سمعتها ، تصوم اليوم الذي يليه) ، فهذا النذر يراد به ما يراد باليمين ، وهو كف نفسك عن هذه المعصية ، وهذا يسميه العلماء بـ "نذر اللجاج" .
والأصل في حكم هذا النذر : أن الناذر إذا حنث فإنه يخير بين الوفاء بالنذر ، وبين كفارة اليمين .
وما دمت قد قيدت هذا الصوم بأنه يكون في اليوم التالي للسماع، وقد سمعت ولم تصم، فليس أمامك إلا أن تخرج كفارة يمين ، لتعذر الوفاء بالنذر .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" فأما الحلف بالنذر الذي هو " نذر اللجاج والغضب " مثل أن يقول: إن فعلت كذا فعلي الحج، أو فمالي صدقة، أو فعلي صيام ، يريد بذلك أن يمنع نفسه عن الفعل. أو أن يقول: إن لم أفعل كذا فعلي الحج ونحوه :
فمذهب أكثر أهل العلم أنه يجزئه كفارة يمين، من أهل مكة والمدينة والبصرة والكوفة، وهو قول فقهاء الحديث: كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وغيرهم، وهذا إحدى الروايتين عن أبي حنيفة وهو الرواية المتأخرة عنه " انتهى من "مجموع الفتاوى" (35 / 253 - 254).
وراجع لمزيد الفائدة جواب السؤال رقم : (226641).
ثم إن كنت قد نذرت الصيام كلما وقع منك سماع الأغاني ، فيكون هذا النذر يفيد التكرار فيجب عليك التكفير عنه كلما وقع منك السماع .
وإن كنت شاكا في التكرار فالأصل براءة الذمة.
وقد سبق تفصيل هذا في جواب السؤال رقم : (240676).
والواجب على المؤمن أن يكف نفسه عن معصية الله تعالى ، من غير حاجة إلى نذر ولا يمين ، فعليك أن تتقي الله تعالى ، وتسعى في زيادة إيمانك وتقويته ، بكثرة قراءة القرآن ، والصلاة والصيام .. وسائر الطاعات .
مع كثرة دعاء الله تعالى والإلحاح عليه أن يوفقك لكل خير، وأن يعيذك من شر نفسك والشيطان.
وننبهك أيضا : إلى تمام الحذر من الوسوسة في أمر الإيمان ، والعبادات ، فإن الوسواس داء وبيل ، متى استمكن من العبد ، أوشك أن يفسد عليه أمر دينه ، ودنياه .
وفي الموقع أجوبة كثيرة حول الوساوس في الإيمان ، والعبادات ، يمكن مراجعتها في التصنيف الموضوعي للموقع .
نسأل الله تعالى أن يتوب عليك وأن يرزقك الاستقامة .
والله أعلم.