الحمد لله.
النذر أنواع؛ منها ما يجب الوفاء به إجماعا، ولا تجزئ فيه الكفارة.
قال ابن قدامة رحمه الله في "المغني" (10/4):
"والقسم الثاني، نذر طاعة وتبرر، مثل الذي ذكر الخرقي؛ فهذا يلزم الوفاء به؛ للآيتين والخبرين.
وهو ثلاثة أنواع؛ أحدها، التزام طاعة في مقابلة نعمة استجلبها، أو نقمة استدفعها، كقوله: إن شفاني الله، فلله علي صوم شهر. فتكون الطاعة الملتزَمة مما له أصل في الوجوب بالشرع، كالصوم والصلاة والصدقة والحج، فهذا يلزم الوفاء به، بإجماع أهل العلم.
النوع الثاني، التزام طاعة من غير شرط، كقوله ابتداء: لله علي صوم شهر. فيلزمه الوفاء به في قول أكثر أهل العلم، وهو قول أهل العراق، وظاهر مذهب الشافعي. وقال بعض أصحابه: لا يلزم الوفاء به؛ لأن أبا عمر غلام ثعلب قال: النذر عند العرب: وعدٌ بشرط. ولأن ما التزمه الآدمي بِعِوَض، يلزمه بالعقد، كالمبيع والمستأجر، وما التزمه بغير عوض، لا يلزمه بمجرد العقد كالهبة.
النوع الثالث، نذر طاعة لا أصل لها في الوجوب، كالاعتكاف وعيادة المريض، فيلزم الوفاء به [عند عامة أهل العلم. وحكي عن أبي حنيفة أنه لا يلزمه الوفاء به]؛ لأن النذر فرع على المشروع، فلا يجب به ما لا يجب له نظير بأصل الشرع.
ولنا: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: من نذر أن يطيع الله فليطعه.
وذمُّه الذين ينذرون ولا يوفون، وقول الله تعالى: ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين * فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون * فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون [التوبة/75- 77.
وقد صح: أن عمر قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أوف بنذرك .
ولأنه ألزم نفسه قربة على وجه التبرر، فتلزمه، كموضع الإجماع، وكما لو ألزم نفسه أضحية، أو أوجب هديا، وكالاعتكاف، وكالعمرة، فإنهم قد سلموها، وليست واجبة عندهم.
وما ذكروه يبطُل بهذين الأصلين، وما حكوه عن أبي عمر؛ لا يصح فإن العرب تسمي الملتَزم نذرا، وإن لم يكن بشرط، قال جميل:
فليت رجالا فيك قد نذروا دمي ... وهموا بقتلي يا بثين لقوني
والجعالة وعد بشرط، وليست بنذر" انتهى. والتكملة بين الأقواس من "الشرح الكبير".
فتبين بهذا أن نذر الطاعة يجب الوفاء به إجماعا في إحدى صوره، وعند أكثر العلماء في صورتيه الأخريين، ولا مدخل فيه للكفارة إلا إذا عجز عن الوفاء به.
قال ابن قدامة رحمه الله: " من نذر طاعة لا يطيقها، أو كان قادرا عليها، فعجز عنها، فعليه كفارة يمين؛ لما روى عقبة بن عامر، قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية، فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستفتيته، فقال: لتمش، ولتركب متفق عليه.
ولأبي داود: وتكفر يمينها. وللترمذي: ولتصم ثلاثة أيام.
وعن عائشة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا نذر في معصية الله، وكفارته كفارة يمين. قال: ومن نذر نذرا لا يطيقه، فكفارته كفارة يمين رواه أبو داود، وقال: وقفه من رواه عن ابن عباس. وقال ابن عباس: من نذر نذرا لم يسمه، فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا في معصية، فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا لا يطيقه، فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا يطيقه، فليف الله بما نذر...
وإن عجز لعارض يرجى زواله، من مرض، أو نحوه انتظر زواله، ولا تلزمه كفارة ولا غيرها، لأنه لم يفت الوقت، فيشبه المريض في شهر رمضان. فإن استمر عجزه إلى أن صار غير مرجو الزوال، صار إلى الكفارة والفدية" انتهى من "المغني" (10/11).
والأصل في الوفاء بنذر الطاعة: قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلا يَعْصِهِ) رواه البخاري (6202).
وينظر في بيان أنواع النذر وما يجب فيها: جواب السؤال رقم:(2587).
والله أعلم.