الحمد لله.
أولا:
الأذكار المطلقة ينبغي أن يكثر الإنسان منها بلا حد ، ولو أتى بالملايين من هذه الأذكار كالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لعموم الأدلة المرغبة في ذلك والتي فيها الثناء على الذاكرين الله كثيرا والذاكرات.
وقد كان أبو هريرة رضي الله عنه يسبح كل يوم : اثني عشر ألف تسبيحة، يقول: أسبح بقدر ديتي؛ يعني: يفتك رقبته من العذاب بذلك .
انظر: "سير أعلام النبلاء" (2/610)، "لطائف المعارف"، لابن رجب (285) .
وهكذا العبادات الأخرى كقراءة القرآن وقيام الليل والصيام، ولو استغرقت أوقات المسلم بما لا يشغله عن واجباته الأخرى.
وأخبار السلف في ذلك كثيرة متواترة ، تنظر في سيرهم وأخبارهم ، ولهم من الاجتهاد في العبادة ، آناء الليل ، وأطراف النهار: ما هو خير زاد ودافع للمسلم ، للاستكثار من ذلك.
ولا يقال: إن على الإنسان أن يقل من العبادة لئلا يكون كالخوارج، فهذا فهم خاطئ مصادم النصوص المرغبة فيما سبق.
والخوارج لا يلامون على إتيانهم بالعبادة العظيمة، لكن يلامون على عدم الفقه والتدبر والرجوع إلى أهل العلم، ولهذا جاء في الحديث أن القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولا يصل إلى قلوبهم، فلا ينتفعون به، فهم على عبادة مع جهل وتنطع، وهذا ما أدى بهم إلى الغلو والشطط .
وإلا ففي الصحابة والتابعين ومن بعدهم من عرف بالعبادة العظيمة، ومن كان يقوم بمائة ركعة وثلاثمائة ركعة، وغير ذلك من صنوف العبادة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " (يقرؤون القرآن ولا يجاوز تراقيهم) بمثناة وقاف، جمع تَرقوة بفتح أوله وسكون الراء وضم القاف وفتح الواو، وهي العظم الذي بين نقرة النحر والعاتق، والمعنى : أن قراءتهم لا يرفعها الله ، ولا يقبلها.
وقيل: لا يعملون بالقرآن ، فلا يثابون على قراءته ، فلا يحصل لهم إلا سرده.
وقال النووي: المراد أنهم ليس لهم فيه حظ ، إلا مروره على لسانهم ، لا يصل إلى حلوقهم فضلا عن أن يصل إلى قلوبهم؛ لأن المطلوب : تعقّله ، وتدبره بوقوعه في القلب.
قلت: وهو مثل قوله فيهم أيضا: (لا يجاوز إيمانهم حناجرهم) : أي ينطقون بالشهادتين ، ولا يعرفونها بقلوبهم" انتهى من "فتح الباري" (12/ 293).
والحاصل:
ألا يغتر أحد بعبادتهم، وتلاوتهم ، بمفردها ، مع زيغ قلوبهم ، وضلالهم ، وتركهم سنة نبيهم ، وخروجهم على أصحابه .
وليس المراد أن ذلك عيبهم ، أو أن من اجتهد في العبادة ، فقد شابههم ، أو يخشى عليه أن يكون منهم ، أو مثلهم ، فهذا كله غلط ، لا يخفى .
وما جاء في أثر ابن مسعود، وإنكاره على من اجتمعوا في المسجد، ومعهم حصى يسبحون بها، وأن هذه الفئة كان عامتهم بعد ذلك من الخوارج، إنما يستفاد منه ذم البدعة، لا التقليل من العبادة، ولا التخوّف من كثرتها.
وينظر: جواب السؤال رقم : (82559) .
ثانيا:
الذين رغبوا عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم : أرادوا الامتناع عن المباحات من الأكل والنوم والنكاح، والانقطاع للعبادة .
ولاشك أن هذا مضر بالعقل والبدن، وهو من الرهبنة التي لم يأت بها الإسلام، وهي مخالفة لما علم من قصد الشريعة إلى إكثار النسل، وتقوية البدن، ومجانبة الإفراط والغلو.
روى البخاري (5063) ومسلم (1401) عن أَنَس بْن مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال : " جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ : أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : " قَوْله ( فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ): الْمُرَاد بِالسُّنَّةِ : الطَّرِيقَة لَا الَّتِي تُقَابِل الْفَرْض .
وَالرَّغْبَة عَنْ الشَّيْء : الْإِعْرَاض عَنْهُ إِلَى غَيْره , وَالْمُرَاد : مَنْ تَرَكَ طَرِيقَتِي، وَأَخَذَ بِطَرِيقَةِ غَيْرِي: فَلَيْسَ مِنِّي .
وَلَمَّحَ بِذَلِكَ إِلَى طَرِيق الرَّهْبَانِيَّة ، فَإِنَّهُمْ الَّذِينَ اِبْتَدَعُوا التَّشْدِيد كَمَا وَصَفَهُمْ اللَّه تَعَالَى، وَقَدْ عَابَهُمْ بِأَنَّهُمْ مَا وَفُّوهُ بِمَا اِلْتَزَمُوهُ .
وَطَرِيقَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَنِيفِيَّة السَّمْحَة ، فَيُفْطِر لِيَتَقَوَّى عَلَى الصَّوْم ، وَيَنَام لِيَتَقَوَّى عَلَى الْقِيَام ، وَيَتَزَوَّج لِكَسْرِ الشَّهْوَة ، وَإِعْفَاف النَّفْس ، وَتَكْثِير النَّسْل .
وَقَوْله : ( فَلَيْسَ مِنِّي ) إِنْ كَانَتْ الرَّغْبَة ، بِضَرْبٍ مِنْ التَّأْوِيل يُعْذَر صَاحِبه فِيهِ : فَمَعْنَى ( فَلَيْسَ مِنِّي ) ، أَيْ : [ فليس ] عَلَى طَرِيقَتِي ؛ وَلَا يَلْزَم أَنْ يَخْرُج عَنْ الْمِلَّة .
وَإِنْ كَانَ إِعْرَاضًا وَتَنَطُّعًا ، يُفْضِي إِلَى اِعْتِقَاد أَرْجَحِيَّة عَمَله : فَمَعْنَى ( فَلَيْسَ مِنِّي ) : لَيْسَ عَلَى مِلَّتِي ؛ لِأَنَّ اِعْتِقَاد ذَلِكَ نَوْع مِنْ الْكُفْر .
وَفِي الْحَدِيث دَلَالَة عَلَى فَضْلِ النِّكَاح وَالتَّرْغِيب فِيهِ " انتهى من "فتح الباري" (9/ 105).
ثالثا:
الطريقة التي ذكرت في تربية الأطفال من دعوتهم إلى التسابق في الإتيان بأكثر عدد من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، طريقة غير محمودة، لأنها مدعاة للرياء والعجب ، والمسارعة إلى الذكر لأجل نيل الجائزة الدنيوية ، والشغل بالعدد المطلوب في السبق، دون مواطأة القلب، لأن هم الطالب أن يأتي بالعدد، وقد يحمل هذا بعضهم على الكذب، ولهذا حذر منها جماعة من أهل العلم، كما سبق بيانه في جواب السؤال رقم : (259259) .
فلذلك ننصح: أن يُقتصر على حث الطلاب على الإكثار من الصلاة والذكر، دون مسابقة مع غيره لنيل جائزة ، أو رضا المربي ، أو نحو ذلك . بل يكتفى بالحث والترغيب، والتذكير بأن يوم الجمعة فيه الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وتنويع أوراد الأذكار التي تتطلب عد المائة ، من الاستغفار، والتهليل ، ونحو ذلك مما جاءت به الآثار .
والله أعلم.