الحمد لله.
أولا:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ.
قَالَ: وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ النَّاسَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَخَفُّ الْحُدُودِ ثَمَانونَ، فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ " رواه مسلم (1706).
وهذا الحد بالجلد مما اتفق عليه أئمة أهل العلم، مع خلاف في بعض تفاصيله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" أما "شارب الخمر" : فيجب باتفاق الأئمة أن يجلد الحد إذا ثبت ذلك عليه، وحده أربعون جلدة أو ثمانون جلدة. فإن جلده ثمانين جاز باتفاق الأئمة.
وإن اقتصر على الأربعين : ففي الإجزاء نزاع مشهور: فمذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين : أنه يجب الثمانون.
ومذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى عنه : أن الأربعين الثانية تعزير ، يرجع فيها إلى اجتهاد الإمام؛ فإن احتاج إلى ذلك ، لكثرة الشرب أو إصرار الشارب ونحو ذلك : فعل " انتهى من"مجموع الفتاوى" (34 / 216).
ثانيا:
لتطبيق هذه العقوبة لا بد من تحقق شروطها؛ وهي:
الشرط الأول: التكليف ؛ بأن يكون الشارب بالغا عاقلا؛ فلا عقوبة على شارب الخمر إذا كان صبيا لم يبلغ أو مجنونا لا يعقل.
جاء في "الموسوعة الفقهية الكويتية" (25 / 97):
" فلا حد على المجنون والصبي باتفاق؛ لأن الحد عقوبة محضة ، فتستدعي جناية محضة، وفعل الصبي والمجنون : لا يوصف بالجناية ؛ فلا حد عليهما لعدم الجناية منهما " انتهى.
الشرط الثاني: أن يكون شاربها مختارا؛ غير مكره عليها، ولا مضطرا.
فإن كان مكرها لا خيرة له، سقط عنه الحد.
قال الله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ النحل/106.
قال ابن العربي رحمه الله تعالى:
" لما سمح الله تعالى في الكفر به، وهو أصل الشريعة، عند الإكراه، ولم يؤاخذ به، حمل العلماء عليه فروع الشريعة، فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذ به، ولا يترتب حكم عليه.
وعليه جاء الأثر المشهور عند الفقهاء: ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ). والخبر، وإن لم يصح سنده، فإن معناه صحيح باتفاق من العلماء، ولكنهم اختلفوا في تفاصيل " انتهى من"أحكام القرآن" (3 / 1180).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" ولا فرق بين الإكراه على القول والفعل عند الجمهور " انتهى من "فتح الباري" (12 / 312).
ومن ذلك الإكراه على شرب الخمر.
قال ابن العربي رحمه الله تعالى:
" من اضطر إلى خمر، فإن كان بإكراهٍ : شَرِبَ ؛ بلا خلاف " انتهى من "أحكام القرآن" (1 / 56).
ويلحق بالإكراه : الاضطرار؛ فإذا اضطر إلى شرب الخمر حماية لنفسه من الهلاك ولم يجد ما يقوم مقامها، كأن يَغَص بأكلة، ولا يجد ما يدفعها إلا الخمر؛ فإنه يجوز له الشرب بمقدار الحاجة فقط، كما نص على ذلك أهل العلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" وكذلك "الخمر" يباح لدفع الغصة بالاتفاق، ويباح لدفع العطش في أحد قولي العلماء، ومن لم يبحها قال: إنها لا تدفع العطش، وهذا مأخذ أحمد. فحينئذ فالأمر موقوف على دفع العطش بها،ـ فإن علم أنها تدفعه: أبيحت بلا ريب، كما يباح لحم الخنزير لدفع المجاعة، وضرورة العطش الذي يرى أنه يهلكه ، أعظم من ضرورة الجوع؛ ولهذا يباح شرب النجاسات عند العطش بلا نزاع، فإن اندفع العطش؛ وإلا فلا إباحة في شيء من ذلك " انتهى. "مجموع الفتاوى" (14 / 471).
وهذا يتناوله عموم قوله تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ الأنعام /119.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
" فالحرام الذي قد فصله الله وأوضحه، قد أباحه عند الضرورة والمخمصة، كما قال تعالى: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزيرِ ) إلى أن قال: ( فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )" انتهى من "تفسير السعدي" (ص 271).
الشرط الثالث: أن يكون شربها حصل على وجه التعمد، فإن كان الشارب مخطئا ، فهو معذور بسبب خطئه؛ كما لو شربها على أنها عصير ، أو غيره من الأشربة المباحة ؛ فهذا لا حد عليه ، لأن أدلة الشرع قد قامت على أن العقوبات لا تقام إلا على من تعمد ارتكاب المحرمات.
قال الله تعالى : وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا الأحزاب/5.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" فإن الله قد وضع الحرج في الخطأ ورفع إثمه، كما أرشد إليه في قوله آمرا عباده أن يقولوا: ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ). وثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( قال الله: قد فعلت )..." انتهى من "تفسير ابن كثير" (6 / 379).
الشرط الرابع: أن يكون الشارب عالما بتحريم شرب الخمر، فلو كان جاهلا بتحريم الخمر ، فلا عقوبة عليه.
قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" لكن من الناس من يكون جاهلا ببعض هذه الأحكام جهلا يعذر به، فلا يحكم بكفر أحد حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة كما قال تعالى: ( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل )، وقال تعالى: ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ).
ولهذا لو أسلم رجل ، ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه؛ أو لم يعلم أن الخمر يحرم : لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا ، وتحريم هذا؛ بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية " انتهى من"مجموع الفتاوى" (11 / 406).
الشرط الخامس: أن يكون الشارب مسلما. فالكافر الذمي لا يقام عليه الحد عند جمهور أهل العلم، وبعضهم يعاقبه على وجه التأديب إن أظهر ذلك أمام الناس، لما فيه من إشاعة المنكر بين المسلمين.
جاء في "الموسوعة الفقهية الكويتية" (25 / 98):
" فلا حد على الذمي والحربي المستأمن بالشرب ولا بالسكر في ظاهر الرواية عند الحنفية...
وقال المجد ابن تيمية: ولا يحد الذمي بشربه وإن سكر، وعنه: يحد، وعندي: إن سكر: حُد ، وإلا فلا. وصرح المالكية بأن الذمي يؤدب بالشرب إن أظهره " انتهى.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" أما غير المسلم فهم لا يعتقدون تحريمه؛ ولهذا لا يقام عليهم الحد إذا شربوا الخمر، ولكنهم يمنعون من إظهاره في بلاد المسلمين " انتهى من "الشرح الممتع" (14 / 303).
الشرط السادس: أن يثبت الشرب بإقرار الشارب ، أو ببينة معتبرة.
قال ابن رشد رحمه الله تعالى:
" أما بماذا يثبت هذا الحد، فاتفق العلماء على أنه يثبت بالإقرار ، وبشهادة عدلين. واختلفوا في ثبوته بالرائحة " انتهى من "بداية المجتهد" (4 / 397).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" والحد واجب : إذا قامت البينة، أو اعترف الشارب؛ فإن وجدت منه رائحة الخمر ، أو رُئي وهو يتقيؤها ونحو ذلك: فقد قيل: لا يقام عليه الحد ، لاحتمال أنه شرب ما ليس بخمر، أو شربها جاهلا بها، أو مكرها ونحو ذلك.
وقيل: بل يجلد ، إذا عرف أن ذلك مسكر. وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة: كعثمان وعلي وابن مسعود؛ وعليه تدل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي يصلح عليه الناس ، وهو مذهب مالك ، وأحمد في غالب نصوصه ، وغيرهما " انتهى من "مجموع الفتاوى" (28 / 339).
فإذا اجتمعت هذه الشروط وجب إقامة الحد على شارب الخمر ، إن بلغ الحاكم .
فإذا تخلف شرط من هذه الشروط؛ فلا يقام الحد على شارب الخمر.
واختلف العلماء في الشارب الذي يتوب قبل أن يصل أمره إلى القضاء؛ فذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا حد عليه؛ قياسا على جريمة الحرابة؛ حيث قال الله تعالى:
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ المائدة/33 - 34.
ولأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
وهو مذهب الإمام الشافعي وأحمد ، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
ينظر : "المهذب" (3/368) "الإنصاف" (27/31) ، "مجموع الفتاوى" (22/240) .
والله أعلم.