الحمد لله.
أولًا :
قال الطاهر ابن عاشور رحمه الله : " وقد عرض لي الآن أن أعدّ من أحوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي يصدر عنها قول منه أو فعل - اثني عشر حالًا . منها ما وقع في كلام القرافي ، ومنها ما لم يذكره.
وهي : التشريع ، والفتوى ، والقضاء ، والإمارة ، والهدي ، والصلح ، والإشارة على المستشير ، والنصيحة ، وتكميل النفوس ، وتعليم الحقائق العالية ، والتأديب ، والتجرّد عن الإرشاد ".
ثم قال :
" وهذه الأحوال الثلاثة [الأولى] كلُّها شواهد التشريع ، وليست التفرقة بينها إلا لمعرفة اندراج أصول الشريعة تحتها .
والفتوى والقضاء: كلاهما تطبيق للتشريع " ، انتهى من "مقاصد الشريعة" (3/ 99).
وفصَّل في بقية الأنواع ، وذكر أمثلة لكل نوع .
ثانيًا :
ينبغي أن يعلم أن الغالب في التصرفات النبوية هو التشريع ، فالأصل أن يحمل على التشريع العام إلا بدليل.
قال ابن عاشور: " واعلم أن أشد الأحوال التي ذكرناها اختصاصاً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي حالة التشريع ، لأن التشريع هو المراد الأول لله تعالى من بعثته ، حتى حصر أحواله فيه في قوله تعالى: ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ ).
فلذلك يجب المصير إلى اعتبار ما صدر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأقوال والأفعال، فيما هو من عوارض أحوال الأمة: صادراً مصدر التشريع ؛ ما لم تقم قرينة على خلاف ذلك " انتهى من "مقاصد الشريعة" (3/ 136).
ولا بد من "مراعاة القرائن ، فالحكم على التصرف بأنه باعتبار الإمامة أو القضاء : يتطلب النظر في القرائن المصاحبة للواقعة ، وليس هو من قبيل التوقع والتخمين ، فهو اجتهاد تفصيلي يدقق في واقعة معينة .
ولا بد من الوعي بحقيقة كل تصرف ، فيجب أن يعرف حقيقة التصرف ، وما يمكن أن يدخل ، مما لا يمكن ، ولهذا تجد عند الفقهاء وعيًا بهذا، فالعبادات مثلًا لا تحتمل إلا التشريع .
فالنظر في التصرفات النبوية : يقوم على نظر جزئي تفصيلي ، يتجاوز مجرد الوعي بوجود قاعدة تتعلق بالتمييز بين التصرفات النبوية ، وهذه طبيعية الاجتهاد الفقهي ، لا يتوقف عند الوعي بالقواعد العامة لأنها غير كافية ما لم تصحب بنظر تفصيلي في الوقائع ، يعتمد على فهم لجزئيات الشريعة الأخرى " ، انتهى .
انظر: " تصرف النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره إمامًا" لفهد العجلان" ، رابط المادة: http://iswy.co/e283ji
ثالثًا :
قد تقرر : أن الأصل في أقواله صلى الله عليه وسلم أنها للتشريع ، لأنه مبلغ عن ربه ، مرسل لهداية الخلق ، مأمور بالبيان ، كما قال تعالى : وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ النحل/44 ، وقال : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ المائدة/67 .
ويدل على أن الأصل في أقواله صلى الله عليه وسلم أنها للتشريع : ما روى أبو داود (3646) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ : " كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيدُ حِفْظَهُ ، فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ ، وَقَالُوا : أَتَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا؟ فَأَمْسَكْتُ عَنْ الْكِتَابِ ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ فَقَالَ : اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقّ ".
وقد يقول صلى الله عليه وسلم القول لا يريد به التشريع ، وهذا خلاف الأصل ، ولابد من دليل يبين أنه لغير التشريع ، كما في قصة تأبير النخل المشهورة ، وقد رواها مسلم (2361) عن طَلْحَةَ قَالَ : " مَرَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْمٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ ، فَقَالَ : مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ ؟ فَقَالُوا : يُلَقِّحُونَهُ ، يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِي الْأُنْثَى فَيَلْقَحُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئًا ) قَالَ : فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ ، فَقَالَ : إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ ، فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا ، فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ اللَّهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَل ".
ورواه مسلم (2363) عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه : " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ فَقَالَ : لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ قَالَ فَخَرَجَ شِيصًا فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ : مَا لِنَخْلِكُمْ ، قَالُوا : قُلْتَ كَذَا وَكَذَا قَالَ : أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُم ".
والشيص : البسر الرديء ، الذي إذا يبس صار حشفا .
فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك ظنا ، فخرج بهذا عن أن يكون تشريعا .
وما لم يخبر فيه بذلك: فالأصل فيه التشريع، ووجوب الائتساء به صلى الله عليه وسلم، والوقوف عند حده فيه.
وأما أفعاله صلى الله عليه وسلم فقد تصدر منه على وجه التشريع ، وقد تكون من أفعال الجبلة والعادة التي هي مقتضى البشرية ، كالأكل والشرب والقيام والقعود ، وقد يكون الفعل خاصا به صلى الله عليه وسلم .
وانظر ما سبق من تفصيل ذلك في الجواب رقم : (258503).
والله أعلم.