قرأت أن ابن خلدون في مقدمته ذكر"الحالومية"، وذلك بأن تذكر أسماء أعجمية قبل أن تنام لترى من تحبه في المنام، فما صحة ذلك؟
الحمد لله.
أولًا:
يقول ابن خلدون في "المقدمة"(ص/46-47):
"وقع في كتاب (الغاية) وغيره من كتب أهل الرياضات، ذكر أسماء تُذكر عند النوم، فتكون عنها الرؤيا فيما يتشوف إليه، ويسمونها الحالومية. وذكر منها مسلمة في كتاب (الغاية) حالومةً، سماها حالومة الطباع التام، وهو أن يقال عند النوم بعد فراغ السر وصحة التوجه: هذه الكلمات الأعجمية وهي، تماغس بعد أن يسواد وغداس نوفنا غادس ويذكر حاجته، فإنه يرى الكشف عما يسأل عنه في النوم.
وحكي أن رجلاً فعل ذلك بعد رياضة ليال في مأكله وذكره، فتمثل له شخص يقول له أنا طباعك التام، فسأله وأخبره عما كان يتشوف إليه.
وقد وقع لي أنا بهذه الأسماء مراءٍ عجيبة، واطلعت بها على أمور كنت أتشوف إليها من أحوالي.
وليس ذلك بدليل على أن القصد للرؤيا يُحْدِثها، وإنما هذه الحالومات تُحدِث استعداداً في النفس لوقوع الرؤيا، فإذا قوي الاستعداد كان أقرب إلى حصول ما يستعد له، وللشخص أن يفعل من الاستعداد ما أحب، ولا يكون دليلاً على إيقاع المستعد له. فالقدرة على الاستعداد غير القدرة على الشيء، فاعلم ذلك وتدبره فيما تجد من أمثاله. والله الحكيم الخبير".
وفي هذا النص ذكر ابن خلدون هذا الفعل، نقلًا له عن أهل الرياضات، والرياضة يُقصد بها رياضة النفس بطرق مختلفة مجربة بغرض تحصيل المعرفة، وهو سلوك يوجد عند المتصوفة في الأديان المختلفة، ثم ذكر ابن خلدون أنه جرب ذلك فوجد ثمرته، وأكد أن ثمرتها التي تحدث إنما تحدث بسبب الاستعداد الذي هو تهيئة النفس لحدوث الشيء.
وطريق تحصيل المعرفة عن طريق الرياضة هو - في مجمله - طريق تزِلُّ فيه الأقدام، وتجتمع على حوافه الشياطين يضلون به العباد.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكثير من أهل الإرادة يزعمون أن طريق الرياضة بمجرده تحصل المعارف بلا تعلم ولا نظر ولا تدبر للقرآن والحديث".
ويقول: "ومنهم من يدعي أنه علم ذلك بطريق الكشف والمشاهدة، ويكون كاذبا فيما يدعيه، وإنما أخذ ذلك عن هؤلاء المتفلسفة تقليدا لهم، أو موافقة لهم على طريقتهم الفاسدة، كما فعل أصحاب رسائل إخوان الصفا وأمثالهم.
وقد يتمثل في نفسه ما تقلده عن غيره؛ فيظنه كشفا، كما يتخيل النصراني التثليث الذي يعتقده، وقد يرى ذلك في منامه، فيظنه كشفا، وإنما هو تخيُّلٌ لما اعتقده.
وكثير من أرباب الاعتقادات الفاسدة: إذا ارتاضوا، صقلت الرياضة نفسوهم، فتتمثل لهم اعتقاداتهم، فيظنونها كشفا". انتهى، من "مجموع الفتاوى" (6/547).
وما في كلام ابن خلدون من سلوك أهل الرياضة المسمى: (الحالومة) هو شكل من أشكال طلبهم للمعرفة بطريق التمارين النفسية، فيريدون معرفة أشياء معينة، فيذكرون هذه الأسماء، فيدَّعون أنه تنكشف لهم الحاجة في النوم.
وليس هناك مستند من العقل أو النقل على أن ذكر هذه الأسماء يوصل إلى تلك المعرفة، فما ذلك الادعاء إلا توطيد لخرافة، وغاية ما يمكن أن يحدث هو أن هذا الانشغال النفسي بالأمر قبل النوم، قد يجعل العقل الباطن ينطلق بذكر هذا الأمر في الحلم، ولا دليل على أن حدوث هذا في النوم ينطوي على معرفة يركن إليها.
وأصل هذه الممارسات كلها سلوكيات وثنية، وهذا ما سنشرحه في الفقرة القادمة.
ثانيًا:
موضوع الأحلام من المواضيع التي شغلت العقل البشري منذ فجر تاريخه، وقد حفظت لنا المصادر الكتابية في الشرق الأدنى القديم أعدادًا كبيرة من نصوص الأحلام وتفسيرها، كان للعرب منها نصيب، كالنقش الصفائي (WH 1679) من محافظة المفرق شمال شرق الأردن، وكانت الأحلام موضوعًا لعدد من النقوش العربية الجنوبية، بنوعيها، المسند والزبور.
انظر: Stein, P., (2006).
ومن طرق تفسير الأحلام في العالم القديم الإلهامية، وارتبطت بالآلهة؛ إذ كان المعتَقد أنها تختار إنسانًا ما في مكان معين، من وقت معين، لكي تبلغه الوحي في المنام، بعد أن يمارس الشخص ممارسة دينية تتمثل بالنوم في مكان مقدس، بنية تلقي رؤيا وحي، يستقبل فيها النائم وحيًا إلهيًّا، أو علاجًا من مرض ما.
وقد تناوله عالم الآشوريات الأمريكي أوبنهايم في دراسته الرائدة عن الأحلام في بلاد الرافدين، إلا أن دراسة أوبنهايم لم تتطرق إليه كفاية.
وكان هذا الطقس معروفا في اليمن القديم، وفي جنوب الجزيرة، وقد كتب بيتر شتاين مقالة (عام 2006) نشر فيها نقشًا بخط الزبور، يصف رؤيا منام كامل في اليمن القديم، وتطرق في مقالته هذه إلى ممارسة الحالومة في جنوب الجزيرة، وأشار إلى كونها ممارسة شائعة، وموثقة جيدًا في حضارات الشرق الأدنى القديم.
وقد نشر خليل نامي نقشا باسم (Nāmī NAG 12 (= Ir 11)) وهو نقش سبئي مكسور قطعتين ومرسوم على يمين السطرين الأول والثاني رمز يشبه أفعى، يعود إلى عهد الملك شعر أوتر الذي يؤرخ عهده بحوالي 220 للميلاد. انظر: Kitchen, K. (2000), p. 243
وأعاد قراءة هذا النقش وترجمه بترجمة أدق ريكمانز، وأقرها كل من مولر وشتاين.
انظر:( Ryckmans, J. (1968), p. 226- Stein, P. (2006), pp. 295-296
Müller, W. W. (1986), p. 152 - 154).
تكمن أهميّة هذه القراءة، التي عرضها شتاين، أنها تعطينا لأول مرة تصورًا مفصلًا عن طقس ديني في جنوب الجزيرة العربية، وهو ما لم يوجد في أي نقش آخر حتى الآن. ومضمون النقش أن الملك يتقرب إلى الإله بتمثال حسبما أمره، وأنه تلقى أمر الإله هذا في شهر محدد من مكان محدد من المعبد، وهو ما يفيدنا بوجود شروط محددة، زمانية ومكانية، لاستقبال الوحي.
وبحسب دراسة سالي بلتر، فقد وصلتنا ستة أمثلة عن طقس الحالومة في بلاد الرافدين، اثنان فقط منها جاء فيهما تفصيل للطقوس، على النحو الآتي:
1. أن يكون الطقس في الليل.
2. أن يجلب المؤدي للطقس بعض الشعير.
3. أن يَطحنَ الشعير شابٌ لم يعرف امرأة (بتول).
4. تُمسَح الأرضية قبل ظهور نجوم "بنات نعش الكبرى".
5. أن يقف وحيدًا في الليل على السقف (أو في ضواحي المدينة).
6. أن يريق الماء الطاهر على شكل دائرة، 3 مرات قبل ظهور نجوم "بنات نعش الكبرى"، و3 مرات قبل ظهور "إروا" (إروا Erua هو تسمية أخرى للإلهة سربانيط Sarpanitu، الإلهة الأم في الميثولوجيا البابلية وهي قرينة الإله مردوخ، واسمها يعني اللامعة، ارتبطت بكوكب الزهرة [Jastrow, M. (1898), p. 122].)
7. أن يُعدَّ مبخرة من شجر العرعر.
8. أن ينثر بعضًا من الطحين المعطر رخيص الثمن.
9. أن يتوجه بتلاوة التعويذة نحو نجوم "بنات نعش الكبرى" ثلاث مرات..
بهذه التفاصيل وغيرها مما هو موجود في تفاصيل الطقس، بترجماته المختلفة: تتبين الطبيعة الوثنية للطقس، مثل: التقرب للإله بتمثال، والاستقسام بالسهام، وغير ذلك مما هو موجود في تفاصيل الطقس في الترجمات المشار إليها.
انظر فيما سبق: https://wefaq.net/c/70/2957
ثالثًا:
إذا اتضح ما تقدم ظهر أن هذه الممارسة هي ممارسة وثنية قديمة، وقد دخلت على أهل الرياضات، ربما لجهلهم بأصلها الوثني.
والحاصل:
أن هذه الممارسة ونحوها، مع كونها عارية عما يؤيدها من العقل والنقل: ذات أصل وثني شركي؛ فلا يجوز للإنسان أن يتلبس بها على الإطلاق، من جهتين:
الأولى: أنها اعتقاد كون شيء سببًا في شيء، بلا دليل من عقل أو نقل: وهذا محرم؛ بل ذكر غير واحد من أهل العلم أنه من شرك الوسائل.
الثانية: أنها تشبه بأفعال أصحاب الأوثان، مع كون ألفاظها أعجمية، فربمًا احتوت على محتوى شركي كفري. ومعلوم أن من شروط الرقية الشرعية: كونها بكلام مفهوم لمن يستعملها.
والله أعلم.