الحمد لله.
أولا:
لا شك أن أهل التاريخ متتابعون على أن الوليد بن يزيد لم يكن على هدي صالح، وتنسب إليه جملة من المعاصي والمخالفات.
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
" ولم يصح عن الوليد كفر ولا زندقة ، نعم اشتهر بالخمر والتلوط ، فخرجوا عليه لذلك " انتهى، من "تاريخ الإسلام" (3 / 555).
وتهمته بفاحشة اللواط هو ما رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (5 / 355 - 356) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ. قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ. عَنْ أَبِيهِ. قَالَ: " كَانَ الزُّهْرِيُّ يَقْدَحُ أَبَدًا عِنْدَ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي خَلْعِ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ وَيَعِيبُهُ .
وَيُذْكَرُ أُمُورًا عَظِيمَةً لا يَنْطِقُ بِهَا، حَتَّى يَذْكُرَ الصِّبْيَانَ أَنَّهُمْ يُخَضِّبُونَ بِالْحِنَّاءِ. وَيَقُولُ لِهِشَامٍ: مَا يَحِلُّ لَكَ إِلا خَلْعُهُ. فَكَانَ هِشَامٌ. لا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ. لِلْعَقْدِ الَّذِي عَقَدَ له ".
ومثل هذا لا يصلح حجة ؛ لأننا لا نعلم مدى ثقة وعدالة الذي أخبر الزهري بأسرار الوليد، خاصة وأن هناك شبهة تنافس على الملك في ذلك الوقت ، ومحمد بن عمر شيخ ابن سعد هو الواقدي وهو متهم بالكذب في روايته.
وأما قول أخيه سليمان بأن الوليد قد راوده.
كما رواه الطبري في "التاريخ" (7 / 250 - 251) عن أحمد بن زهير وهو ابن أبي خيثمة، عن المدائني علي بن محمد، عن عمرو بن مروان الكلبي: " لما قتل الوليد قطعت كفه اليسرى، فبعث بها إلى يزيد بْن الوليد ، فسبقت الرأس ، قدم بها ليلة الجمعة، وأُتِيَ برأسه من الغد، فنصبه للناس بعد الصلاة...
ثم – أمر بأخذ الرأس - إلى أخيه سليمان، وكان سليمان أخو الوليد ممن سعى على أخيه، فغسل ابن فروة الرأس، ووضعه في سفط ، وأتى به سليمان، فنظر إليه سليمان، فقال: بعدا له! أشهد أنه كان شروبا للخمر، ماجنا فاسقا، ولقد أرادني على نفسي الفاسق ، فخرج ابن فروة من الدار، فتلقته مولاة للوليد، فقال لها: ويحكِ! ما أشدَّ ما شتمه! زعم أنه أراده على نفسه! فقالت: كذب والله الخبيث، ما فعل، ولئن كان أراده على نفسه لقد فعل ، وما كان ليقدر على الامتناع منه " .
فهذا الخبر فيه عمرو بن مروان الكلبي، وقد سُمِّي في كتاب ابن عساكر "تاريخ دمشق" (45 / 337) باسم "عمر بن مروان" ولم يذكر ابن عساكر من الرواة عنه إلا علي بن محمد هذا المدائني، ولم نقف على من وثّقه، فالله أعلم بحاله.
ومتن هذا الخبر ليس فيه حجة، فسليمان كان عدوا لأخيه الوليد كما في هذا الخبر، وشهادة العدو لا تقبل، ثم إن جاريته نفت هذا عنه ، واتهمت سليمان بالكذب.
وورد ما ينفي عنه مثل هذه الفواحش، كما جاء عند الطبري رحمه الله تعالى:
" دخل – الوليد - القصر، وأغلق الباب، وأحاط عبد العزيز وأصحابه بالقصر، فدنا الوليد من الباب، فقال أما فيكم رجل شريف له حسب وحياء أكلمه! فقال له يزيد بن عنبسة السكسكي: كلمني!
قال له: من أنت؟
قال: أنا يزيد بْن عنبسة.
قال: يا أخا السكاسك! ألم أزد في أعطياتكم! ألم أرفع المؤن عنكم! ألم أعط فقراءكم! ألم أخدم زمناكم!
فقال: إنا ما ننقم عليك في أنفسنا، ولكن ننقم عليك في انتهاك ما حرّم الله وشرب الخمر، ونكاح أمهات أولاد أبيك، واستخفافك بأمر الله.
قال: حسبك يا أخا السكاسك، فلعمري لقد أكثرت وأغرقت ، وإن فيما أحِلّ لي لسعة عما ذكرت، ورجع إلى الدار فجلس وأخذ مصحفا، وقال: يوم كيوم عثمان، ونشر المصحف يقرأ " انتهى من "تاريخ الطبري" (7 / 246).
فالحاصل؛ أن هذه أخبار تاريخية مشتهرة، وأهل التاريخ ليسوا في مقام القضاء والحكم، وإنما في مقام سرد ما حُكي واشتهر ذكره.
وأما الطريقة الشرعية لإثبات المعاصي على الناس فلها منهج شرعي بحسب المعصية، فيشترط اقامة البيّنة من الشهود أو اعتراف المذنب نفسه، وهذا كله لا يتحقق لنا اليوم للحكم على الوليد، كما لم يحكم عليه قاض عادل في زمنه، ولم يصلنا سوى مثل هذه الروايات التي لا ترقى لأن تكون دليلا وبينة شرعية، لو كنا في زمانها ، ولا هي مما يوجب العلم ، ويعطي الثقة في مروياتها ؛ فنكل حاله إلى الله تعالى، ونتأدب بما في قوله تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا الإسراء /36.
ثانيا:
ونفس ما سبق يقال عمّا اتهم به الخليفة العباسي الأمين محمد بن هارون الرشيد، وتهمته أضعف، فلم نقف على اسناد لهذه التهمة، فقد ساقها الطبري بغير اسناد؛ حيث قال رحمه الله تعالى:
" ذكر عن حميد بن سعيد، قَالَ: لما ملك محمد، وكاتبه المأمون، وأعطاه بيعته، طلب الخصيان وابتاعهم، وغالى بهم، وصيرهم لخلوته في ليله ونهاره، وقُوّام طعامه وشرابه، وأمره ونهيه، وفرض لهم فرضا سماهم الجرادية، وفرضا من الحبشان سماهم الغرابية، ورفض النساء الحرائر والإماء حتى رمى بهن " انتهى من "تاريخ الطبري" (8 / 508).
ثم إن هذه الرواية ليس فيها تصريح بالفاحشة؛ فغاية ما فيها أنه اكتفى بهم في خدمته دون النساء، ثم إن هذه الرواية لا تتوافق بل تعارض سائر الأخبار عن سيرته أثناء ملكه، حيث كان ذا زوجة وولد، وكانت تظهر الجواري في خدمته ولهوه، ولما ماتت جاريته أم ولده حزن عليها حزنا شديدا، وكذا ما روي من إنكاره على أبي نواس الشاعر.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" وذكروا أنه كان كثير الأدب، فصيحا، يقول الشعر ويحبه، ويعطي عليه الجوائز الكثيرة، وكان شاعره أبا نواس، وقد قال فيه أبو نواس مدائح حسانا جدا، وقد وجده مسجونا في حبس الرشيد مع الزنادقة، فأحضره، وأطلقه، وأطلق له مالا، وجعله من ندمائه، ثم حبسه مرة أخرى في شرب الخمر وأطال حبسه، ثم أطلقه، وأخذ عليه العهد أن لا يشرب الخمر، ولا يأتي الذكران من العالمين، فامتثل ذلك، وكان لا يفعل شيئا من ذلك بعدما استتابه الأمين، وقد تأدب على الكسائي، وقرأ عليه القرآن " انتهى من "البداية والنهاية" (14 / 104).
لكن لعل ما اشتهر به من اللهو: سهّل على خصومه رميه بالتهم، وكان وقته وقت تنازع على الملك مع أخيه المأمون، وكان خلف هذا الصراع صراع بين عصبية الفرس والتشيع التي كانت في جهة المأمون، والعرب التي كانت في جهة الأمين.
فالحاصل: أن التهمة في حقه ضعيفة جدا؛ ولذا قال الذهبي رحمه الله تعالى:
" الخليفة، أبو عبد الله محمد بن الرشيد هارون، ابن المهدي محمد، ابن المنصور الهاشمي، العباسي، البغدادي.
وأمه: زبيدة بنت الأمير جعفر ابن المنصور.
عقد له أبوه بالخلافة بعده، وكان مليحا، بديع الحسن، أبيض، وسيما، طويلا، ذا قوة، وشجاعة، وأدب، وفصاحة.
ولكنه [كان] سيئ التدبير، مفرط التبذير، أرعن، لعابا، مع صحة إسلام ودين " انتهى من "سير أعلام النبلاء" (9 / 334 - 335).
وعلى فرض صحة هذه التهم، فلا يظهر فيها ما يشكل، فهذه ذنوب أشخاص لا علاقة للأمة المسلمة بها، فلم تخترهم للخلافة مع علمها بفواحشهم حتى تتحمل وزرهم، بل ورثوها وراثة.
كما أن هذه التهم لا يمكن أن يطعن بها في سائر خلفاء بني أمية وبني العباس كما يفعل الظلمة من الشيعة؛ لأنها ذنوب أفراد يتحملون وزرها لوحدهم.
قال الله تعالى: وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ الأنعام /164.
وقال الله تعالى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى فاطر/18.
والله أعلم.