الحمد لله.
أولا :
سبق الكلام على الأحاديث المعلقة في صحيح البخاري، وأنها على مراتب ، وليست على مرتبة واحدة ، وليس هي من جملة "الحديث المسند" ، الذي يخرجه البخاري في صحيحه، ويقال فيه : رواه البخاري، هكذا ، بإطلاق.
فينظر جواب السؤال رقم (269251)، وينظر أيضا حول حديث المعازف جواب السؤال رقم (278064).
ثانيا:
أما الحديث الذي ذُكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انقطع عنه الوحي همّ أن يتردى من فوق الجبال، فالجواب عن إشكاله:
أن هذا الحديث لم يروه البخاري بالإسناد المتصل ، ولم يروه كذلك معلقا ، وإنما ذكره بلاغا عن معمر أو عن الزهري ، والبلاغات من قبيل المنقطع ، وهذا هو سياق الحديث كما جاء في البخاري.
قال الإمام البخاري في "صحيحه" (6982) حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ ، عَنْ عُقَيْلٍ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، ح وحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، أَنَّهَا قَالَتْ: " أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ، فَكَانَ يَأْتِي حِرَاءً فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ ، وَهُوَ التَّعَبُّدُ، اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَتُزَوِّدُهُ لِمِثْلِهَا ، حَتَّى فَجِئَهُ الحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ ، فَجَاءَهُ المَلَكُ فِيهِ ، فَقَالَ: اقْرَأْ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق: 1]- حَتَّى بَلَغَ - عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 5] " فَرَجَعَ بِهَا تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ ، فَقَالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ ، فَقَالَ: يَا خَدِيجَةُ ، مَا لِي وَأَخْبَرَهَا الخَبَرَ ، وَقَالَ: قَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي فَقَالَتْ لَهُ: كَلَّا ، أَبْشِرْ ، فَوَاللَّهِ لاَ يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا ، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَصْدُقُ الحَدِيثَ ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ ، ثُمَّ انْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ العُزَّى بْنِ قُصَيٍّ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أَخُو أَبِيهَا ، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الجَاهِلِيَّةِ ، وَكَانَ يَكْتُبُ الكِتَابَ العَرَبِيَّ ، فَيَكْتُبُ بِالعَرَبِيَّةِ مِنَ الإِنْجِيلِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: أَيِ ابْنَ عَمِّ ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ ، فَقَالَ وَرَقَةُ: ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَأَى ، فَقَالَ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى ، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا ، أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ فَقَالَ وَرَقَةُ: نَعَمْ ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا ، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ .
وَفَتَرَ الوَحْيُ فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فِيمَا بَلَغَنَا ، حُزْنًا غَدَا مِنْهُ مِرَارًا كَيْ يَتَرَدَّى مِنْ رُءُوسِ شَوَاهِقِ الجِبَالِ ، فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ لِكَيْ يُلْقِيَ مِنْهُ نَفْسَهُ ، تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ ، إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا ، فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ ، وَتَقِرُّ نَفْسُهُ ، فَيَرْجِعُ ، فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الوَحْيِ غَدَا لِمِثْلِ ذَلِكَ ، فَإِذَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ".
والشاهد منه قوله :" وَفَتَرَ الوَحْيُ فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فِيمَا بَلَغَنَا ، حُزْنًا غَدَا مِنْهُ مِرَارًا كَيْ يَتَرَدَّى مِنْ رُءُوسِ شَوَاهِقِ الجِبَالِ "
فقوله "فيما بلغنا " ، يُعد من بلاغات معمر، أو الزهري ، وبالتالي فهو ليس على شرط البخاري لأنه منقطع .
قال القاضي عياض في "الشفا" (2/244) :" وَقَوْلُ مَعْمَرٍ فِي فَتْرَةِ الْوَحْيِ : فَحَزِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما بلغنا- حزنا غدا منه مرارا كي يتردّى من شواهق الجبال..
ولا يَقْدَحُ فِي هَذَا الْأَصْلِ لِقَوْلِ مَعْمَرٍ عَنْهُ - فِيمَا بَلَغَنَا- وَلَمْ يُسْنِدْهُ ، وَلَا ذَكَرَ رُوَاتَهُ ، وَلَا مَنْ حَدَّثَ بِهِ ، وَلَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ ، وَلَا يُعْرَفُ مِثْلُ هَذَا إِلَّا مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". انتهى
قال ابن حجر في "فتح الباري" (12/359) :" ثُمَّ إِنَّ الْقَائِلَ : ( فِيمَا بَلَغَنَا ) ، هُوَ الزُّهْرِيّ، ُ وَمَعْنَى الْكَلَامِ : أَنَّ فِي جُمْلَةِ مَا وَصَلَ إِلَيْنَا مِنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِه الْقِصَّة .
وَهُوَ مِنْ بَلَاغَاتِ الزُّهْرِيِّ ، وَلَيْسَ مَوْصُولًا ". انتهى
وقال أبو شامة المقدسي في "شرح الحديث المقتفى في مبعث النبي المصطفى" (ص177) :" قوله : " وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فيما بلغنا ، حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال " :
هذا من كلام الزهري أو غيره ، غير عائشة . والله أعلم . لقوله : " فيما بلغنا " ، ولم تقل عائشة في شيء من هذا الحديث ذلك ، وإن كانت لم تدرك وقته ".انتهى
فتبين مما سبق أن ذكر التردي في الحديث : لم يروه البخاري متصلا ، وإنما أورده بلاغا ، فليس على شرطه ، ولا يجوز أن يقال رواه البخاري في صحيحه .
وينظر كلاما مفصلا حول ضعف بلاغ الزهري المذكور من حيث الإسناد ، ونكارته من حيث المتن، في كتاب: "رد شبهات حول عصمة النبي صلى الله عليه وسلم"، د. عماد الشربيني، (304) وما بعدها . وينظر أيضا: سلسلة الأحاديث الضعيفة، للشيخ الألباني، رقم (1052) ورقم (4858).
ثالثا:
أما الحديث الثاني، وهو حديث الداجن، فللجواب عن إشكاله، نقول:
هذا الحديث لم يذكره البخاري في صحيحه أصلا ، ولعل السائل وهم في عزوه للبخاري .
وعلى كلٍ فالحديث باطل ، وإسناده لا يصح .
أخرجه أحمد في "مسنده" (26316) ، وابن ماجه في "سننه" (1944)، والدارقطني في "سننه" (4/179) ، من طريق محمد بن إسحاق ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ، عَنْ عَمْرَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:"لَقَدْ نَزَلَتْ آيَةُ الرَّجْمِ وَرَضَاعَةُ الْكَبِيرِ عَشْرًا ، وَلَقَدْ كَانَ فِي صَحِيفَةٍ تَحْتَ سَرِيرِي ، فَلَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَشَاغَلْنَا بِمَوْتِهِ ، دَخَلَ دَاجِنٌ فَأَكَلَهَا".
قال الجورقاني في "الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير" (2/184) :" هَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ ، تَفَرَّدَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ، وَهُوَ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ ، وَفِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ بَعْضُ الِاضْطِرَابِ ".انتهى
والعلة ليست فقط في كون محمد بن إسحاق روى الحديث ، وإنما في مخالفة الثقات الأكابر له في رواية الحديث .
حيث خالفه مالك في روايته ، فرواه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهَا قَالَتْ:" كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ ، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ ".
ولم يذكر مالك في روايته الداجن .
أخرجه مالك في "الموطأ" (2/608) ، ومن طريقه مسلم في "صحيحه" (1452) .
وأيضا رواه يحيى بن سعيد عن عمرة ، عن عائشة بلفظ :" نَزَلَ فِي الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ ، ثُمَّ نَزَلَ أَيْضًا خَمْسٌ مَعْلُومَاتٌ " .
أخرجه من طريقه مسلم في "صحيحه" (1452) .
فتبين مما سبق أن حديث الداجن لم يروه البخاري ولا مسلم ، وإنما أخرجه ابن ماجة وغيره من طريق ابن إسحاق ، وفي حفظه مقال معروف ، وحديثه حسن إن صرح بالتحديث ، إلا أنه في هذا الحديث خالفه الأئمة الثقات يحيى بن سعيد ، ومالك بن أنس ، فدل على أنه وهم وأخطأ في ذكر الداجن.
وقد سبق الكلام مفصلا عن الحديث المذكور في جواب السؤال رقم (175355).
والله أعلم .