الحمد لله.
إذا جعل الرجل مقبرة يدفن فيها هو وأسرته فقد صارت بذلك وقفا .
ويثبت الوقف بالقول أو بالفعل الدال عليه ، فمثال القول أن يقول : هذه المقبرة وقف ، أو أذنت لمن مات من أسرتي أن يدفن فيها ونحو ذلك .
ومثال القول : أن يموت أحد من أسرته ويأذن بدفنه فيها .
قال ابن قدامة رحمه الله في "الكافي" (2/250) :
"ويصح الوقف بالقول والفعل الدال عليه ، مثل أن يبني مسجدا ويأذن للناس في الصلاة فيه ، أو مقبرة ويأذن لهم في الدفن فيها ، أو سقاية ويشرع بابها ويأذن في دخولها ، لأن العرف جار به ، وفيه دلالة على الوقف ، فجاز أن يثبت به، كالقول ، وجرى مجرى من قدم طعاما لضيفانه ...
وأما القول : فألفاظه ستة :
ثلاثة صريحة ، وهي : وقفت وحبست وسبَّلت ، متى أتى بواحدة منها صار وقفا ، لأنه ثبت لها عرف الاستعمال ، وعرف الشرع بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه : (إن شئت حبست أصلها ، وسبلت ثمرتها) .
وثلاثة كناية وهي : تصدقت وحرَّمت وأبَّدت ، فليست صريحة ، لأنها مشتركة بين الوقف وغيره من الصدقات والتحريمات .
فإن نوى بها الوقف ، أو قرن بها لفظا من الألفاظ الخمسة ، أو حكم الوقف بأن يقول : صدقة محبسة ، أو محرمة ، أو مؤبدة ، أو صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث : صار وقفا ، لأنه لا يحتمل مع هذه القرائن إلا الوقف" انتهى .
فإذا ثبت كونها وقفا ، بجعله مقبرة ، وإذنه بالدفن فيها ؛ فقد خرجت بذلك عن ملكه ، وملك ورثته .
ويرجع فيمن يدفنون في هذه الأرض إلى ما قاله الواقف حين وقفه الأرض ، ولا يجوز له ولا لورثته ، ولا لغيرهم أن يغير ذلك فيما بعد ، لأن الوقف عقد لازم، ويرجع في شروط المستحق له إلى ما اشترطه وقاله الواقف .
قال المرداوي رحمه الله في "الإنصاف" (11/69) :
"( وَالْوَقْفُ عَقْدٌ لَازِمٌ . لَا يَجُوزُ فَسْخُهُ بِإِقَالَةٍ وَلَا غَيْرِهَا ) . هَذَا الْمَذْهَبُ . وَعَلَيْهِ الْأَصْحَابُ" انتهى .
وقال البهوتي في "كشاف القناع" :
"( وَالْوَقْفُ عَقْدٌ لَازِمٌ ) قَالَ فِي التَّلْخِيصِ وَغَيْرِهِ : أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْوَصِيَّةِ ، أَوْ لَمْ يُخْرِجْهُ ( ؛ لَا يَجُوزُ فَسْخُهُ بِإِقَالَةٍ وَلَا غَيْرِهَا ) ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَقْتَضِي التَّأْبِيدَ ، فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِ ذَلِكَ ( مَثَلًا .
وَيَلْزَمُ ) الْوَقْفُ ( بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ ، بِدُونِ حُكْمِ حَاكِمٍ ) ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلَا تُوهَبُ وَلَا تُورَثُ . قَالَ التِّرْمِذِيُّ : الْعَمَلُ عَلَى هَذَا الْحَدِيث عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ . وَكَالْعِتْقِ" انتهى .
وقال المرداوي في "الإنصاف" (11/17) :
قَوْلُهُ: "وَيُرْجَعُ إلَى شَرْطِ الْوَاقِفِ فِي قَسْمِهِ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ... وَإِخْرَاجِ مَنْ شَاءَ بِصِفَةٍ ، وَإِدْخَالِهِ بِصِفَةٍ . وَفِي النَّاظِرِ فِيهِ ، وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ ، وَسَائِرِ أَحْوَالِهِ" انتهى .
وجاء في "الموسوعة الفقهية" (6/307) :
"لَوْ قَيَّدَ الْوَاقِفُ الاِنْتِفَاعَ بِالْوَقْفِ بِشُرُوطٍ مُحَدَّدَةٍ ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى شَرْطِ الْوَاقِفِ ، لأِنَّ الشُّرُوطَ الَّتِي يَذْكُرُهَا الْوَاقِفُونَ، هِيَ الَّتِي تُنَظِّمُ طَرِيقَ الاِنْتِفَاعِ بِهِ ، وَهَذِهِ الشُّرُوطُ مُعْتَبَرَةٌ مَا لَمْ تُخَالِفِ الشَّرْعَ" انتهى .
وفيها أيضا (44/131) :
"شُرُوطُ الْوَاقِفِينَ :
- الْوَقْفُ قُرْبَةٌ اخْتِيَارِيَّةٌ ، يَضَعُهَا الْوَاقِفُ فِيمَنْ يَشَاءُ ، وَبِالطَّرِيقَةِ الَّتِي يَخْتَارُهَا ، وَلَهُ أَنْ يَضَعَ مِنَ الشُّرُوطِ ، عِنْدَ إِنْشَاءِ الْوَقْفِ : مَا لاَ يُخَالِفُ حُكْمَ الشَّرْعِ ، وَالشُّرُوطُ الَّتِي يَضَعُهَا الْوَاقِفُ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهَا ، وَلاَ يَجُوزُ مُخَالَفَتُهَا ، إِذَا لَمْ تُخَالِفِ الشَّرْعَ ، أَوْ تُنَافِي مُقْتَضَى الْوَقْفِ ؛ إِذْ إِنَّ شَرْطَ الْوَاقِفِ كَنَصِّ الشَّرْعِ ، كَمَا يَقُول الْفُقَهَاءُ .
فَفِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ : شَرَائِطُ الْوَاقِفِ مُعْتَبَرَةٌ إِذَا لَمْ تُخَالِفِ الشَّرْعَ وَهُوَ مَالِكٌ ، فَلَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ مَالَهُ حَيْثُ شَاءَ مَا لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَةً ، وَلَهُ أَنْ يَخُصَّ صِنْفًا مِنَ الْفُقَرَاءِ ، وَلَوْ كَانَ الْوَضْعُ فِي كُلِّهِمْ قُرْبَةً. وَفِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ لِلدَّرْدِيرِ : وَاتُّبِعَ وُجُوبًا شَرْطُ الْوَاقِفِ إِنْ جَازَ شَرْعًا ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ لَمْ يُتَّبَعْ .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الأْصْل أَنَّ شَرَائِطَ الْوَاقِعِ مَرْعِيَّةٌ ؛ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَا يُنَافِي الْوَقْفَ ..." انتهى .
وينظر: جواب السؤال رقم : (125101) .
وبناء على هذا ،
فما دام جدك قد أوقف هذه الأرض لتكون مقبرة له ولأسرته ، فلا يجوز دفن أحد من خارج أسرته في هذه المقبرة .
ولا يجوز، أيضا : إخراج أحد من "الأسرة" من حق الانتفاع بهذا الوقف .
والوصية التي أوصاها يجب العمل بها ، وهي في الحقيقة ليست إلا تأكيدا لحكم الوقف السابق ، وليست ابتداء حكم جديد .
والله أعلم.