الحمد لله.
أولا:
من الثابت شرعا، والمتصور عقلا عند جميع العقلاء؛ أنه ليس من شرط الرسالة أن يكون الرسول منزها عن المباحات التي فطر عليها البشر، من أكل وشرب ونكاح المرأة التي تعجبه، حيث قال الله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ الرعد/38.
ولم ينكر هذا إلا الجهال عبّاد الأحجار والأصنام؛ حيث حكى الله جهلهم، في قوله: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا الفرقان/7.
وفي قوله تعالى: وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ المؤمنون/33.
ولهذا فزواجه صلى الله عليه وسلم بمن أعجبته، ليس فيه ما يناقض رسالته، وليس فيه ما يستنكر عقلا، ولا فطرة؛ وإنما ينكره من شابه عقله عقل أولئك الجهال العباد للأصنام، الذين استباحوا كل المحرمات والقاذورات من زنا وشذوذ، ويدعون إليها ويصفون كل من يعارضهم بالجهل والتخلف، ثم بعد كل هذه الأوساخ يستنكرون زواجا طاهرا للنبي صلى الله عليه وسلم!؟
والحاصل في قصة جويرية رضي الله عنها؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أعجبته جويرية، فاقترح عليها الزواج، فما الذي يُسْتنكر في هذا شرعا أو عقلا؟
روى الإمام أحمد في "المسند" (43 / 384)، وأبو داود (3931) عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: " لَمَّا قَسَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَايَا بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَقَعَتْ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ فِي السَّهْمِ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ الشَّمَّاسِ - أَوْ لِابْنِ عَمٍّ لَهُ - ، وَكَانَتْ امْرَأَةً حُلْوَةً مُلَاحَة،ً لَا يَرَاهَا أَحَدٌ إِلَّا أَخَذَتْ بِنَفْسِهِ، فَأَتَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْتَعِينُهُ فِي كِتَابَتِهَا، قَالَتْ: فَوَاللهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُهَا عَلَى بَابِ حُجْرَتِي، فَكَرِهْتُهَا، وَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَرَى مِنْهَا مَا رَأَيْتُ!!
فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَا جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ سَيِّدِ قَوْمِهِ، وَقَدْ أَصَابَنِي مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ، فَوَقَعْتُ فِي السَّهْمِ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ الشَّمَّاسِ - أَوْ لِابْنِ عَمٍّ لَهُ - فَكَاتَبْتُهُ عَلَى نَفْسِي، فَجِئْتُكَ أَسْتَعِينُكَ عَلَى كِتَابَتِي.
قَالَ: فَهَلْ لَكِ فِي خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَتْ: وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: أَقْضِي كِتَابَتَكِ، ، وَأَتَزَوَّجُكِ ، قَالَتْ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ .
قَالَتْ: وَخَرَجَ الْخَبَرُ إِلَى النَّاسِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ، فَقَالَ النَّاسُ: أَصْهَارُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَرْسَلُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ، قَالَتْ: فَلَقَدْ أُعْتِقَ بِتَزْوِيجِهِ إِيَّاهَا مِائَةُ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَمَا أَعْلَمُ امْرَأَةً كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً عَلَى قَوْمِهَا مِنْهَا" وحسّنه محققو المسند، والشيخ الألباني في "صحيح سنن أبي داود".
ثانيا:
جويرية رضي الله عنها كانت مسلمة حين طلبت من النبي صلى الله عليه وسلم المساعدة؛ فلا شك أنها كانت ترغب في أن تكون من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا خاطبها صلى الله عليه وسلم بقوله: فَهَلْ لَكِ فِي خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَتْ: وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: أَقْضِي كِتَابَتَكِ وَأَتَزَوَّجُكِ ، قَالَتْ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ ".
فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّي امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ أَشْهَدُ أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وأنا جويرية بنت الحارث ابن أَبِي ضِرَارٍ سَيّدِ قَوْمِهِ، أَصَابَنَا مِنْ الْأَمْرِ مَا قَدْ عَلِمْت ... " .
هكذا رواه الواقدي في "المغازي" (1/411) . ومن طريقه : الحاكم، وابن حبان ، كما في "نصب الراية" ( 4/415).
واعتمد على ذلك: المقريزي في"إمتاع الأسماع" (6/84)، والصالحي في "سبل الهدى والرشاد" (4/347)، والحلبي في "سيرته" (2/586)، والزرقاني في "شرح المواهب" (4/425)، وغيرهم.
بل إن نفس سياق القصة: قاطع في الدلالة على أنها كانت قد أسلمت قبل ذلك؛ فجويرية رضي الله عنها كانت من قوم مشركين، أهل أوثان، والنبي صلى الله عليه وسلم عرض عليها الزواج ابتداء؛ فدل ذلك على أنها كانت قد أسلمت قبل ذلك العرض، ولذلك لم يعرض عليها النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام، ولا طلبه منها ؛ وإلا، فالمؤمن لا يتزوج المشركة الوثنية؛ فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!
وحاصل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرفض مساعدتها ؛ ولم يساعدها ثم أجبرها على الزواج؛ بل تعاقد معها عقدا رأى فيه الخير لها، وتمتعت فيه بكامل حريتها؛ فهو عقد ليس فيه ما يعارض الفطرة أو العقل أو الشرع أو مكارم الأخلاق، بل فيه كمال الإحسان.
وراجع للأهمية جواب السؤال رقم :(118102).
ثالثا:
حادثة التخيير رواها ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (8 / 93)، قال: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّقِّيُّ قَالَ: حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلابَةَ: " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبَى جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ، فَجَاءَ أَبُوهَا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فَقَالَ: إِنَّ ابْنَتِي لا يُسْبَى مِثْلُهَا، فَأَنَا أَكْرَمُ مِنْ ذَاكَ فَخَلِّ سَبِيلَهَا.
قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ خَيَّرْنَاهَا؛ أَلَيْسَ قَدْ أَحْسَنَّا؟
قَالَ: بَلَى وَأَدَّيْتَ مَا عَلَيْكَ.
قَالَ: فَأَتَاهَا أَبُوهَا، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ خَيَّرَكِ، فَلا تَفْضَحِينَا.
فَقَالَتْ: فَإِنِّي قَدِ اخْتَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: قَدْ وَاللَّهِ فَضَحَتْنَا " قال الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (4 / 668):
" هذا مرسل صحيح الإسناد " انتهى.
ومثل هذا الخبر المرسل يقبل في السيرة ونحوها، مما لا يترتب عليه عقيدة أو أحكام فقهية ، لاسيما ، وسياق القصة يشهد له بالصحة .
فقد كانت رضى الله عنها رأت رؤيا قبل غزو النبي صلى الله عليه وسلم قومها ، وأولتها لنفسها بأن النبي صلى الله عليه وسلم سيتزوجها ، ولم تخبر بها أحدا ، فلما وقعت في السبي رجت أن يحقق الله تعالى رؤياها ، ولذلك لما عرض عليها النبي صلى الله عليه وسلم الزواج لم تتأخر ، فقد كانت ترجو ذلك .
ينظر : "دلائل النبوة" للبيهقي (4/109) ، "سبل الهدي والرشاد" (11/211) .
والله أعلم.