الحمد لله.
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المرابي يعذب في نهر كالدم.
عن سَمُرَة بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ لِأَصْحَابِهِ: هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ رُؤْيَا؟ قَالَ: فَيَقُصُّ عَلَيْهِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُصَّ، وَإِنَّهُ قَالَ ذَاتَ غَدَاةٍ:
إِنَّهُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ، وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي، وَإِنَّهُمَا قَالاَ لِي: انْطَلِقْ، وَإِنِّي انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا...
فَأَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ - حَسِبْتُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ - أَحْمَرَ مِثْلِ الدَّمِ، وَإِذَا فِي النَّهَرِ رَجُلٌ سَابِحٌ يَسْبَحُ، وَإِذَا عَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ حِجَارَةً كَثِيرَةً، وَإِذَا ذَلِكَ السَّابِحُ يَسْبَحُ مَا يَسْبَحُ، ثُمَّ يَأْتِي ذَلِكَ الَّذِي قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ الحِجَارَةَ، فَيَفْغَرُ لَهُ فَاهُ فَيُلْقِمُهُ حَجَرًا فَيَنْطَلِقُ يَسْبَحُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ كُلَّمَا رَجَعَ إِلَيْهِ فَغَرَ لَهُ فَاهُ فَأَلْقَمَهُ حَجَرًا. قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَذَانِ؟ قَالَ: قَالاَ لِي: انْطَلِقِ انْطَلِقْ ...
قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مُنْذُ اللَّيْلَةِ عَجَبًا، فَمَا هَذَا الَّذِي رَأَيْتُ؟ قَالَ: قَالاَ لِي: أَمَا إِنَّا سَنُخْبِرُكَ:...
وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يَسْبَحُ فِي النَّهَرِ وَيُلْقَمُ الحَجَرَ، فَإِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا...
رواه البخاري (7047).
والاستهزاء بالمرابي والسخرية منه، وتشبيه أمواله بالدم؛ ليس كفرًا ؛ لأن الاستهزاء الذي يكفر به صاحبه هو ما كان مخلا ومزيلا لأصل تعظيم دين الله تعالى؛ وهو أن يكون بالله أو رسوله أو دينه، كما صدر ذلك من المنافقين فكفّرهم الله به؛ حيث قال تعالى: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ التوبة/64 – 66.
قال ابن العربي رحمه الله تعالى:
" لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جدا أو هزلا، وهو كيفما كان كفر؛ فإن الهزل بالكفر كفر، لا خلاف فيه بين الأمة " انتهى من "أحكام القرآن" (2 / 976).
لكن إذا كان الاستهزاء لا يرجع إلى أمر من هذا؛ وإنما إلى ذات الشخص المسلم أو تصرفاته الخاطئة، فهذا ليس سببا للكفر.
وينظر للفائدة : جواب السؤال رقم:(9057)، ورقم : (139345) .
على أن الذي يتأكد على العبد الناصح لنفسه، الخائف على أمر دينه، الضنين بحسناته التي يجمعها أن تذهب إلى ميزان غيره: أن يدع أمر السخرية من عباد الله المؤمنين كله، فلا يسخر من طائع، ولا عاص، ولا يستهزئ بأحد، ولا يغمزه، ولا يلمزه؛ فتلك عادات سوء، يوشك إن اعتادها صاحبها أن يعز عليه الإقلاع عنها، أو أن يضعها مواضع الرخصة التي رخص فيها، حتى يتجاوز بها ذلك إلى ما لا رخصة فيه، ولا سعة في قوله.
وقد الله تعالى مؤدبا عباده : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ الحجرات/11 .
قال الإمام ابن جرير الطبري، رحمه الله، بعد سياق خلاف أهل العلم في السبب الذي لأجله نهى الله المؤمنين عن السخرية ببعضهم البعض:
" والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله عم بنهيه المؤمنين عن أن يسخر بعضهم من بعض جميع معاني السخرية، فلا يحل لمؤمن أن يسخر من مؤمن لا لفقره، ولا لذنب ركبه، ولا لغير ذلك " انتهى من "تفسير الطبري" (21/366).
ثم يتأكد ذلك في الصورة المذكورة في السؤال ، لما فيه من وضع نصوص الوعيد في غير موضعها الذي جاءت له ؛ وذلك أن نصوص الوعيد ذكرت للتخويف، فالمُبلِّغ لها عليه أن يستشعر هذا التخويف فيرحم هؤلاء المذنبين ويجتهد في نصحهم، كما هي سيرة الرسل عليهم السلام.
والتندر بما جاء في نصوص الوعيد، وذكرها في مقام السخرية، وعدم الهيبة منها، والرهبة لما جاء فيها من الوعيد، إنما كان يفعله المكذبون بها، لا المشفقون منها، الوجلون من حلول وعيد الله وعذابه بمن عصى أمره.
فعن ابن عباس ، أنه قال : لما ذكر الله الزقوم، خوف به هذا الحي من قريش ، فقال أبو جهل : هل تدرون ما هذا الزقوم الذي يخوفكم به محمد ؟ قالوا : لا ، قال : نتزبد بالزبد ، أما والله لأن أمكننا منها لنتزقمها تزقما !! فأنزل الله عز وجل فيه : والشجرة الملعونة في القرآن ، يقول : المذمومة ، ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا .
رواه البيهقي في "البعث والنشور" (رقم/531).
والمزاح على الوجه الذي ذكرته مخالف للخوف على صديقكم هذا ومخالف للشفقة عليه والنصح له.
والرسل وأتباعهم سبيلهم هو الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وقول أحسن الكلام وأصلحه.
قال الله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ النحل/125.
والسخرية ليست من الحكمة ولا من القول الحسن.
وما يدريكم لعلكم إن سخرتم منه ، واستهزأتم به، أن يزيده ذلك معصية على معصية، وتماديا في طريقه، أو لعله أن يرد عليكم بالاستهزاء من نفس الوعيد الذي ذكرتموه، والتكذيب به؛ وفي ذلك من البلاء ما هو أشد وأعظم من ذنبه، وتكونون أنتم المتسبب فيه!!
فالحاصل: أن هذا الذي تفعلونه، وإن لم يكن في نفسه كفرا؛ فالذي ينبغي لكم تركه ، والاشتغال بدعوة صاحبكم، ونصحه في الله، والشفقة عليه، بدلا من السخرية منه ، والاستهزاء به.
والله أعلم.