ماذا نعنى بالقول ليس على المخلوقين أضر من الخالق ؟ وهل صح هذا القول؟
الحمد لله.
هذه المقولة تتابع المؤرخون على نسبتها إلى أبي طالب المكي صاحب كتاب "قوت القلوب"، وأنه قالها في درس من دروسه، فبُدِّع من أجل ذلك وهجر.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى:
" محمد بن علي بن عطية، أبو طالب المعروف بالمكي.
صنف كتابا سماه "قوت القلوب" على لسان الصوفية...
وقال لي أبو طاهر محمد بن علي بن العلاف: كان أبو طالب المكي من أهل الجبل، ونشأ بمكة، ودخل البصرة بعد وفاة أبي الحسن بن سالم، فانتمى إلى مقالته، وقدم بغداد فاجتمع الناس عليه في مجلس الوعظ، فخلّط في كلامه.
وحفظ عنه أنه قال: ليس على المخلوقين أضر من الخالق.
فبدّعه الناس وهجروه، وامتنع من الكلام على الناس بعد ذلك " انتهى من "تاريخ بغداد" (4 / 151).
ولم نقف على نقل يبيّن قصده من مقولته هذه؛ وقد حاول بعضهم دفاعا عنه أن يذكر مقاصد لهذه الكلمة؛ فذكر بعضهم معاني قبيحة أيضا.
وبعضهم رأى أن قصده؛ هو أن الله تعالى هو وحده الذي بيده الضر والنفع لا غيره.
وهذا المعنى في ذاته صحيح، كما في قوله تعالى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا الفتح/11.
وقول الله تعالى: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ المائدة/76.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما: ( واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك؛ لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك؛ لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك. رفعت الأقلام وجفت الصحف )، قال الترمذي: هذا حديث صحيح. فهذا يدل على أنه لا ينفع في الحقيقة إلا الله، ولا يضر غيره " انتهى من "مجموع الفتاوى" (1 / 93).
لكن حتى لو قصد هذا المعنى، فإن هذه العبارة قبيحة التركيب، حيث تحتوي على سوء أدب مع الله تعالى؛ ويظهر هذا من وجهين:
الوجه الأول:
أن الله تعالى وإن كان بيده الضر ، فإنه لا يقدِّره على عباده في دينهم ودنياهم إضرارا بهم، وإنما يقدره عدلا منه سبحانه وحكمة؛ فالعباد هم الذين يضرون أنفسهم بالتقصير ومخالفة الشرع.
قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ يونس/44.
وقال الله تعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ آل عمران/165 – 166.
وقال تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ، مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا النساء /78 - 79.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
" قال الله في جوابهم: ( قُلْ كُلٌّ ) أي: من الحسنة والسيئة، والخير والشر. ( مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) أي: بقضائه وقدره وخلقه. ( فَمَا لهَؤُلاءِ الْقَوْم ) أي: الصادر منهم تلك المقالة الباطلة. ( لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ) أي: لا يفهمون حديثا بالكلية ولا يقربون من فهمه، أو لا يفهمون منه إلا فهمًا ضعيفًا.
وعلى كل فهو ذم لهم وتوبيخ على عدم فهمهم وفقههم عن الله وعن رسوله، وذلك بسبب كفرهم وإعراضهم...
ثم قال تعالى: ( مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ ) أي: في الدين والدنيا ( فَمِنَ اللَّهِ ) هو الذي مَنَّ بها ويسرها بتيسير أسبابها. ( وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ ) في الدين والدنيا ( فَمِنْ نَفْسِكَ ) أي: بذنوبك وكسبك، وما يعفو الله عنه أكثر.
فالله تعالى قد فتح لعباده أبواب إحسانه، وأمرهم بالدخول لبره وفضله، وأخبرهم أن المعاصي مانعة من فضله، فإذا فعلها العبد فلا يلومن إلا نفسه فإنه المانع لنفسه عن وصول فضل الله وبره " انتهى من "تفسير السعدي" (ص 188 – 189).
ويقدر على المؤمنين أنواعا من البلاء رحمة بهم ونفعا لهم، لا إضرارا.
عَنْ صُهَيْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ رواه مسلم (2999).
وعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟
قَالَ: الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ البَلَاءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ " رواه الترمذي (2398)، وقال: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ".
الوجه الثاني:
أن الفرض على العباد أن يذكروا الله بالحمد والثناء، فقول هذا القائل "بأن الله سبحانه وتعالى أضر على خلقه "، ليس من الثناء والحمد بل هو نوع إساءة ، وهذا أمر مغروز في الفطر، وإنما الثناء الحسن يكون بوصف الله تعالى بأنه القادر على النفع والضر معا، بيانا لكمال ملكه سبحانه وتعالى.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" أسماؤه تعالى منها ما يطلق عليه مفردا ومقترنا بغيره وهو غالب الأسماء، فالقدير والسميع والبصير والعزيز والحكيم، وهذا يسوغ أن يدعى به مفردا ومقترنا بغيره، فتقول: يا عزيز يا حكيم، يا غفور يا رحيم، وأن يفرد كل اسم، وكذلك في الثناء عليه والخبر عنه به يسوغ لك الإفراد والجمع.
ومنها ما لا يطلق عليه بمفرده، بل مقرونا بمقابله، كالمانع والضار والمنتقم، فلا يجوز أن يفرد هذا عن مقابله، فإنه مقرون بالمعطي والنافع والعفوِّ، فهو المعطي المانع، الضار النافع، المنتقم العفو، المعز المذل؛ لأن الكمال في اقتران كل اسم من هذه بما يقابله؛ لأنه يراد به: أنه المنفرد بالربوبية وتدبير الخلق والتصرف فيهم: عطاء ومنعا، ونفعا وضرا، وعفوا وانتقاما، وأما أن يثنى عليه بمجرد المنع والانتقام والإضرار؛ فلا يسوغ، فهذه الأسماء المزدوجة تجري الإسمان منها مجرى الاسم الواحد الذي يمتنع فصل بعض حروفه عن بعض، فهي وإن تعددت جارية مجرى الاسم الواحد، ولذلك لم تجيء مفردة ولم تطلق عليه إلا مقترنة فاعلمه.
فلو قلت: يا مذل يا ضار يا مانع، وأخبرت بذلك؛ لم تكن مثنيا عليه ولا حامدا له حتى تذكر مقابله " انتهى من "بدائع الفوائد" (1 / 294).
فالحاصل؛ أن هذه العبارة قبيحة، يجب على المسلم تجنبها؛ لأنها خلاف ما يجب على المسلم من تعظيم الله تعالى وإجلاله.
والله أعلم.