الحمد لله.
أولا:
روى مسلم في "صحيحه" (498) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها - في ذكرها لصفة صلاته صلى الله عليه وسلم - أنها قَالَتْ: "وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ".
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ: " وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عَقِبِ الشَّيْطَانِ".
واختلف أهل العلم في المراد بــ (عقبة الشيطان)، على ثلاثة أقوال:
القول الأول:
أن ينصب قدميه ويجلس على عقبيه بأليتيه، وهو قول أكثر العلماء.
قال الخطابي في "معالم السنن" (1/199): " وعَقِبِ الشَّيْطَانِ: هو أن يُقعي، فيقعد على عقبيه في الصلاة، لا يفترش رجله ولا يتورك.
وأحسب أني سمعت في عَقِبِ الشَّيْطَانِ معنى غير هذا، فسره بعض العلماء لم يحضرني ذكره " انتهى.
وقال أيضًا: " ورويت الكراهة في الإقعاء عن جماعة من الصحابة. وكرهه النخعي ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. وهو قول أصحاب الرأي وعامة أهل العلم.
وتفسير الإقعاء: أن يضع أليتيه على عقبيه، ويقعد مستوفزًا، غير مطمئن إلى الأرض. وكذلك إقعاء الكلاب والسباع إنما هو أن تقعد على مآخيرها وتنصب أفخاذها.
قال أحمد بن حنبل: وأهل مكة يستعملون الإقعاء، وقال طاوس : رأيت العبادلة يفعلون ذلك ، ابن عمر وابن عباس وابن الزبير، وروي عن ابن عمر أنه قال لبنيه: لا تقتدوا بي في الإقعاء فإني إنما فعلت هذا حين كبرت.
ويشبه أن يكون حديث ابن عباس منسوخًا، والعمل على الأحاديث الثابتة في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم" انتهى من "معالم السنن" (1/209).
وقال أبو العباس القرطبي في "المفهم" (2/99): " قال الهروي، عن أبي عبيد: عقب الشيطان : هو أن يضع أليَتَيه على عقبيه بين السجدتين، وهو الذي يجعله بعض الناس الإقعاء" انتهى.
ورجح الشيخ ابن عثيمين هذا القول.
فقال: " وكان ينهي عن عقبة الشيطان"، يعني: جلسته على عقبيه.
وهل هو الإقعاء الذي ذكره ابن عباس- رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله إذا جلس، أو هو الإقعاء الذي هو كإقعاء الكلب؟
ظاهر الحديث أنه الأول؛ يعني: أن قوله: "عقبة" في معنى : العقيبة؛ أي: الجلوس على عقبيه " انتهى من "شرح بلوغ المرام" (2/56).
وقد صح عن ابن عباس رضي الله عنه أن هذا الإقعاء سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو أن ينصب الرجل قدميه ويجلس عليهما.
فقد روى مسلم (536) عن طَاوُس قال : قُلْنَا لِابْنِ عَبَّاسٍ ، فِي الْإِقْعَاءِ عَلَى الْقَدَمَيْنِ ؟ فَقَالَ : " هِيَ السُّنَّةُ" . قَالَ : فَقُلْنَا : إِنَّا لَنَرَاهُ جَفَاءً بِالرِّجْلِ . فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " هِيَ سُنَّةُ نَبِيِّكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". ورواه البيهقي (2/119) وزاد: (بين السجدتين).
إلا أن عامة أهل العلم على خلاف ذلك، ويرون ذلك منسوخا، وقد سبق هذا كلام الخطابي رحمه الله .
ويرى بعض أهل العلم أن حديث ابن عباس ليس منسوخا، ولكنه خاص بالجلوس بين السجدتين، وليس في التشهد.
وقد نص على هذا الإمام الشافعي، واختاره البيهقي والقاضي عياض والنووي وغيرهم.
انظر: "شرح صحيح مسلم" للنووي (5/27).
القول الثاني:
أن يلصق أليتيه بالأرض، وينصب ساقيه، ويضع يديه على الأرض كما يفرش الكلب وغيره من السباع.
قال النووي في "شرح النووي على مسلم" (4/ 213): " قولها ( عقبة الشيطان ) بضم العين ، وفي الرواية الأخرى: (عقب الشيطان) بفتح العين وكسر القاف ، هذا هو الصحيح المشهور فيه، وحكى القاضي عياض عن بعضهم بضم العين ، وضعفه، وفسره أبو عبيدة وغيره بالإقعاء المنهي عنه؛ وهو أن يلصق ألييه بالأرض وينصب ساقيه، ويضع يديه على الأرض كما يفرش الكلب وغيره من السباع" انتهى.
القول الثالث:
وهو أن يفرش قدميه ويجلس بأليتيه على عقبيه .
قال ابن دقيق العيد: " وَقَوْلُهَا " وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ " وَيُرْوَى " عَنْ عَقِبِ الشَّيْطَانِ " وَفُسِّرَ بِأَنْ يَفْرِشَ قَدَمَيْهِ وَيَجْلِسَ بِأَلْيَتَيْهِ عَلَى عَقِبَيْهِ . وَقَدْ سُمِّيَ ذَلِكَ أَيْضًا الْإِقْعَاءَ " انتهى من "إحكام الأحكام" (1/352).
والذي يظهر أن القول الأول هو الأصوب، وهو أن عقبة الشيطان معناها أن ينصب الرجل قدميه في الصلاة ويجلس بأليتيه على عقبيه.
ثانيًا:
أما علة النهي عن عقبة الشيطان فقيل: لأنها جلسة المستوفز. وقيل: لأنها تشبه إقعاء الكلب.
قال الخطابي: " وتفسير الإقعاء: أن يضع أليتيه على عقبيه، ويقعد مستوفزًا غير مطمئن إلى الأرض. وكذلك إقعاء الكلاب والسباع إنما هو أن تقعد على مآخيرها، وتنصب أفخاذها " انتهى من "معالم السنن" (1/209).
وعليه : فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن جلسة " عقبة الشيطان " وهي أن ينصب الرجل قدميه ويجلس عليهما بأليتيه أو يلصق أليتيه بالأرض ؛ لأنها جلسة المستوفز العَجْلان، ولما في ذلك من التشبه بإقعاء الكلب ، وقد جاءت الشريعة بتكريم الإنسان وتمييزه عن الحيوان ؛ لذلك جاءت بالنهي عن التشبه بالحيوان سواء في الصلاة أو خارجها .
ولهذا النهي نظائر أخرى في الصلاة ؛ قد سردها ابن القيم في "الفروسية" (ص: 122) فقال : " نهى فِي الصَّلَاة عَن التَّشَبُّه بشبه أَنْوَاع من الْحَيَوَان يَفْعَلهَا أَو كثيرا مِنْهَا الْجُهَّال؛ نهى عَن نقر كنقر الْغُرَاب، والتفات كالتفات الثَّعْلَب، وإقعاء كإقعاء الْكَلْب، وافتراش كافتراش السَّبع، وبروك كبروك الْجمل، وَرفع الْأَيْدِي يَمِينا وَشمَالًا عِنْد السَّلَام كأذناب الْخَيل" انتهى.
والله أعلم.