جسد الشهيد الذي قتل في سبيل الله هل يخرج من القبر يوم البعث؟ ففي سورة الحج قال تعالى: (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ)الحج/7، هل هذه الآية دليل على إنه يبعث أيضاً كسائر الناس؟ وهل يذهب إلى الجنة فوراً أم يمر بالبرزخ قبل؟
الحمد لله.
أولًا :
للشهداء عند الله منزلة عظيمة ليست لغيرهم، فالشهداء أحياء عند ربهم يرزقون – كما أخبر الله تعالى – والنبيون من باب أولى.
وتلك حياة برزخية، لا تقاس بالحياة الدنيا، ولا يعلم حقيقتها إلا الله.
قال الله عز وجل في كتابه العزيز: وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ البقرة/154.
وقال سبحانه: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ آل عمران/169.
وروى مسلم في "صحيحه" (1887) عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ بن مَسْعُود عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فقَالَ:" أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَسْرَحُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ اطِّلَاعَةً فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا ؟ قَالُوا: أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا؟ فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا، قَالُوا: يَا رَبِّ نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا.
وينظر جواب السؤال رقم: (200037).
ثانيًا:
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يَبْلَى كُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْإِنْسَانِ إِلَّا عَجْبَ ذَنَبِهِ فِيهِ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ رواه البخاري (4814)، ومسلم (2955).
فظاهر هذا أن جميع بني آدم تأكلهم الأرض، ولا يبقى من أجسادهم شيء إلا عجب الذنب، وهو عظم صغير في أسفل الظهر.
ولم يرد - فيما نعلم – استثناء أحد لا تأكله الأرض إلا الأنبياء فقط ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ رواه أبو داود (1047)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود".
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الشهيد لا تأكله الأرض أيضاً.
قال ابن عبد البر في "التمهيد" (18/173):
" روي في أجساد الأنبياء والشهداء أن الأرض لا تأكلهم ، وحسبك ما جاء في شهداء أحد وغيرهم، وإذا جاز أن لا تأكل الأرض عجب الذنب جاز أن لا تأكل الشهداء، وذلك كله حكم الله وحكمته " انتهى باختصار.
وقال القرطبي في "المفهم شرح مسلم" (7/307):
" وظاهر هذا : أن الأرض لا تاكل أجساد الشهداء، والمؤذنين المحتسبين، وقد شوهد هذا فيمن اطلع عليه من الشهداء، فوجدوا كما دفنوا بعد آماد طويلة، كما ذكر في السير وغيرها" انتهى.
ولكننا لا نعلم دليلا صحيحا من السنة النبوية يدل على أن الشهيد لا تأكله الأرض، غير أنه وجد في وقائع كثيرة بقاء بعض الشهداء مدة بعد دفنهم .
روى البخاري(1351) عَنْ جَابِرٍ رضى الله عنه ، في قصة استشهاد والده في غزوة أحد ، قال " فَأَصْبَحْنَا فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ، وَدُفِنَ مَعَهُ آخَرُ فِى قَبْرٍ، ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسِى أَنْ أَتْرُكَهُ مَعَ الآخَرِ، فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ هُنَيَّةً، غَيْرَ أُذُنِهِ".
وفي رواية أبي داود (3232) "فَمَا أَنْكَرْتُ مِنْهُ شَيْئًا إِلاَّ شُعَيْرَاتٍ كُنَّ فِى لِحْيَتِهِ مِمَّا يَلِى الأَرْضَ ".
وقد عقد القرطبي في "التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة" بابا ذكر فيه شيئا من ذلك.
ولكن لا نستطيع الجزم بأن ذلك يكون لكل شهيد، وأنه يبقى إلى يوم القيامة.
قال ابن أبي العز الحنفي في "شرح الطحاوية" (ص/396):
" وحرم الله على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء كما روي في السنن ، وأما الشهداء : فقد شوهد منهم بَعدَ مُدَدٍ مِن دفنه كما هو لم يتغير ، فيحتمل بقاؤه كذلك في تربته إلى يوم محشره ، ويحتمل أنه يبلى مع طول المدة ، والله أعلم ، وكأنه - والله أعلم - كلما كانت الشهادة أكمل والشهيد أفضل ، كان بقاء جسده أطول " انتهى.
وقال الشيخ ابن عثيمين في "لقاءات الباب المفتوح" (204/سؤال رقم/1):
" أما الشهداء والصديقون والصالحون فهؤلاء قد لا تأكل الأرض بعضهم كرامة لهم، وإلا فالأصل أنها تأكله ولا يبقى إلا عجب الذنب" انتهى.
انظر جواب السؤال رقم: (109997).
ثالثًا :
الجنة لا يدخلها أحد دخولًا تامًا إلا بعد المرحلة الثانية من الحساب ، وهي حساب الآخرة ، ولكن قد تدخل بعض الأرواح الجنة ، فيصيبها بعض نعيمها ، كرامة منه سبحانه وتعالى .
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَيْرٌ يَعْلَقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَهُ اللَّهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُه، رواه مالك في "الموطأ" (1/240) ، وصححه ابن عبد البر في "الاستذكار" (2/614)، ونسمة المؤمن : روحه . ويعلق : أي يأكل ويرعى .
يقول ابن القيم رحمه الله في كتابه "حادي الأرواح" (48):" وهذا صريح في دخول الروح الجنة قبل يوم القيامة " انتهى .
انظر جواب السؤال رقم: (89813).
والشهيد يمر بالبرزخ وأحواله، ثم يبعثه الله من قبره الذي دفن فيه ، كما قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ الحج/6-7.
وقد قال الإمام أحمد في "مسنده" (15351): حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ يَعْنِي الشَّافِعِيَّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ كَانَ يُحَدِّثُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُه.
قال ابن كثير رحمه الله : "هو بإسناد صحيح عزيز عظيم ، اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة " انتهى من "تفسير ابن كثير" (2/164).
قال ابن كثير رحمه الله : " وأما أرواح الشهداء ، ففي حواصل طير خضر ، فهي كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين فإنها تطير بأنفسها " انتهى من"تفسير ابن كثير" (2/164).
وهذا ظاهر في أن روح الشهيد تنعم في الجنة حيث شاءت، حتى يأذن الله ببعث الناس، فتعاد الروح إلى الجسد، ثم يبعث الشهيد من قبره، كما يبعث الناس جميعا.
وينظر جواب السؤال رقم: (148285)
ويكون الشهيد مع الناس في مشهد الحساب، في عرصات يوم القيامة، لا شك في ذلك. وقد روى "البخاري" (237)، و"مسلم" (1876) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كُلُّ كَلْمٍ يُكْلَمُهُ المُسْلِمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَكُونُ يَوْمَ القِيَامَةِ كَهَيْئَتِهَا، إِذْ طُعِنَتْ، تَفَجَّرُ دَمًا، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالعَرْفُ عَرْفُ المِسْكِ .
قال "ابن هبيرة" في "الإفصاح" (6/453): " في هذا الحديث من الفقه أن الله سبحانه وتعالى من كرامة المجاهد عنده، أنه إذا كلم أو أصابه أثر لم يزل ذلك الأثر عن هيئته، حتى يكون ذلك الكلم والأثر، شاهدين له في ذلك الملأ الكريم، فهو أحسن من الحليّ على العروس، وكلما كان منه شيء في وجهه أو صدره، تهلل له وجه الغازي يومئذٍ، وود أن لا يغطي، ومعاذ الله ...
- وأما قوله: (وريحه ريح المسك)؛ فإنه يدل على أن كل من يبلغه ريحه بقرب منه، ويدنو إليه .." انتهى.
وقال "ابن الملقن": " مجيئه يوم القيامة كهيئتها تفجر له فوائد:
الأولى: ليشهد على ظالمه بالقتل شهادة ظاهرة، والدم في الفصل شاهد عجب.
الثانية: ليظهر شرفه لأهل الموقف، بانتشار رائحة المسك من جرحه الشاهد له ببذل نفسه في ذات الله تعالى.
الثالثة: أن هذا الدم خِلْعة خلعها الله عليه في الحقيقة، أكرمه بها في الدنيا، فناسب أن يأتي بها يوم القيامة.
أحرى الملابس أن تلقى الحبيب به * يوم التزاور في الثوب الذي خلعا".
انتهى من "التوضيح" (4/480).
والله أعلم.