في مراتب القدر المشيئة ملازمة للخلق، فمالدليل أنها ليست قديمة وليست ملازمة للكتابة؟ فيكون الترتيب: العلم، ثم المشيئة، والكتابة، ثم الخلق. أقصد أن الأفعال المستقبلية قد علمت، وكتبت، وستخلق بمشيئة الله تعالى السابقه عند كتابتها، مثال الآية (يمحو الله ما يشاء ويثبت) في التقديرات التي أطلع عليها الملائكة، أنه قد كتب في اللوح المحفوظ أنه سيمحي ما كتب التقديرات بمشيئة الله السابقة . مثال آخر لو سرقت أملاك مسلم بمشيئة الله، ثم أعاده الله إليه بمشيئته؛ يكون قد أراد الله وشاء عند الكتابة بأنها تسرق ثم ترد.
الحمد لله.
الإرادة نوعان: قديمة ، وحادثة أي متجددة، فالله تعالى لم يزل مريدا ، ويريد ، متى شاء.
فإذا قدر الله الأشياء وعلمها وكتبها، أراد حدوثها مستقبلا، ولم يرد فعلها في الحال.
ثم يريدها عند إيجادها بالفعل، كما قال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ يس/ 82 ، وقال: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا الكهف/82، وقال: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ الزمر/38 .
فإرادة الشيء المعين : تكون عند إيجاده.
ولو كانت الإرادة أزلية فحسب للزم أحد أمرين:
1-أن يوجد الشيء المعين في الأزل.
2- أو أن يوجد في وقته دون سبب يقتضي تخصيصه بهذا الوقت. والمتكلمون يقولون إن المتجدد هو التعلق، وليس الصفة، فرارا من القول بتجدد الصفات الذي أسموه حلول الحوادث، لكن إن كان التعلق أمرا وجوديا، فقد قام بالصفة ما هو حادث، ووقعوا فيما فروا منه، وإن كان التعلق أمرا عدميا أو اعتباريا لا وجود له، -وهو المعتمد عندهم- فوجوده كعدمه، فيلزم أن الشيء المعين ، قد خُصص بغير مخصص.
وقد ألزم الرازي أصحابه الأشاعرة القول بحلول الحوادث، أو ارتكاب المحال، وذلك من وجوه، منها ما يتعلق بالإرادة.
قال الرازي: "وكذا أيضا: الإرادة الأزلية : كانت متعلقة بترجيح وجود شيء على عدمه في ذلك الوقت المعين، فإذا ترجح ذلك الشيء في ذلك الوقت، امتنع بقاء ذلك التعلق؛ لأن ترجيح المترجح محال" انتهى من "الأربعين في أصول الدين"، ص117.
وفي بيان نوعي الإرادة، وبيان مذاهب الناس في ذلك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"وهو سبحانه إذا أراد شيئا من ذلك ، فللناس فيها أقوال:
قيل: الإرادة قديمة أزلية واحدة ، وإنما يتجدد تعلقها بالمراد، ونسبتها إلى الجميع واحدة . ولكن من خواص الإرادة أنها تخصص بلا مخصص. فهذا قول ابن كلاب والأشعري. ومن تابعهما. وكثير من العقلاء يقول: إن هذا فساده معلوم بالاضطرار، حتى قال أبو البركات: ليس في العقلاء من قال بهذا، وما علم أنه قول طائفة كبيرة من أهل النظر والكلام.
وبطلانه من جهات: من جهة جعل إرادة هذا، غير إرادة ذاك، ومن جهة أنه جعل الإرادة تخصص لذاتها، ومن جهة أنه لم يجعل عند وجود الحوادث شيئا حدث حتى تُخصص أو لا تخصص، بل تجددت نسبة عدمية ليست وجودا، وهذا ليس بشيء، فلم يتجدد شيء، فصارت الحوادث تحدث وتتخصص بلا سبب حادث ولا مخصص.
والقول الثاني: قول من يقول بإرادة واحدة قديمة، مثل هؤلاء، لكن يقول: تحدث عند تجدد الأفعال إرادات في ذاته، بتلك المشيئة القديمة كما تقوله الكرامية وغيرهم. وهؤلاء أقرب من حيث أثبتوا إرادات الأفعال. ولكن يلزمهم ما لزم أولئك من حيث أثبتوا حوادث بلا سبب حادث، وتخصيصات بلا مخصص، وجعلوا تلك الإرادة واحدة تتعلق بجميع الإرادات الحادثة، وجعلوها أيضا تخصص لذاتها، ولم يجعلوا عند وجود الإرادات الحادثة شيئا حدث حتى تخصص تلك الإرادات الحدوث.
والقول الثالث: قول الجهمية والمعتزلة الذين ينفون قيام الإرادة به، ثم إما أن يقولوا بنفي الإرادة، أو يفسروها بنفس الأمر والفعل، أو يقولوا بحدوث إرادة لا في محل كقول البصريين. وكل هذه الأقوال قد علم أيضا فسادها.
والقول الرابع: أنه لم يزل مريدا بإرادات متعاقبة. فنوع الإرادة قديم، وأما إرادة الشيء المعين فإنما يريده في وقته.
وهو سبحانه يقدر الأشياء ويكتبها، ثم بعد ذلك يخلقها. فهو إذا قدرها علم ما سيفعله، وأراد فعله في الوقت المستقبل، لكن لم يرد فعله في تلك الحال، فإذا جاء وقته أراد فعله، فالأول عزم والثاني قصد. وهل يجوز وصفه بالعزم؟
فيه قولان. أحدهما: المنع، كقول القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى.
والثاني الجواز: وهو أصح. فقد قرأ جماعة من السلف فإذا عزمتُ فتوكل على الله بالضم. وفي الحديث الصحيح من حديث أم سلمة: "ثم عزم الله لي" . وكذلك في خطبة مسلم [في صحيحه]: "فعزم لي" .
وسواء سمي " عزما " أو لم يسم؛ فهو سبحانه إذا قدرها، علم أنه سيفعلها في وقتها، وأراد أن يفعلها في وقتها، فإذا جاء الوقت، فلا بد من إرادة الفعل المعين ونفس الفعل، ولا بد من علمه بما يفعله.
ثم الكلام في علمه بما يفعله: هل هو العلم المتقدم بما سيفعله؟ وعلمه بأن قد فعله، هل هو الأول؟
فيه قولان معروفان. والعقل والقرآن يدل على أنه قدر زائد كما قال: لنعلم في بضعة عشر موضعا، وقال ابن عباس: إلا لنرى.
وحينئذ ؛ فإرادة المعيّن تترجح ، لعلمه بما في المعين من المعنى المرجح لإرادته، فالإرادة تتبع العلم" انتهى من "مجموع الفتاوى" (16/ 301-304).
فالحاصل :
أنه لابد من إرادة عند إيجاد الشيء المعين، وإلا لوجد دون مخصص.
ثم لا محذور في تجدد الإرادة، والخلق، والكلام، وغير ذلك من صفاته تعالى، فهو جل وعلا يتكلم بكلام بعد كلام، ويخلق خلقا بعد خلق، ويريد إرادة بعد إرادة، ويريد الشيء عند تقديره، ويريده عند إيجاده بالفعل.
والله أعلم.