ما صحة ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه "كُنَّا نُؤْمَرُ إِذَا صَلَّيْنَا مِنَ اللَّيْلِ، أَنْ نَسْتَغْفِرَ مِنَ السَّحَرِ سَبْعِينَ مَرَّةً "، وفي رواية: " أُمِرْنَا أَنْ نَسْتَغْفِرَ اللَّهَ بِالسَّحَرِيَّاتِ سَبْعِينَ مَرَّةً"؟
الحمد لله.
أولا:
الحديث الوارد في السؤال: أخرجه محمد بن نصر المروزي في "قيام الليل" (87)، من طريق يحيى بن أبي طالب، قال ثنا زَيْدُ بْنُ حُبَابٍ، ثنا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُحَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: "كُنَّا نُؤْمَرُ إِذَا صَلَّيْنَا مِنَ اللَّيْلِ، أَنْ نَسْتَغْفِرَ مِنَ السَّحَرِ سَبْعِينَ مَرَّةً."
وَفِي رِوَايَةٍ:" أُمِرْنَا أَنْ نَسْتَغْفِرَ اللَّهَ بِالسَّحَرِيَّاتِ سَبْعِينَ مَرَّةً."
والحديث ضعيف، فيه علتان:
الأولى: الانقطاع بين محمد بن جحادة وأنس رضي الله عنه، فإنه لم يسمع من أنس.
قال ابن حبان في "الثقات" (7/404): "مُحَمَّد بْن جحادة الأودي من أهل الْكُوفَة، يَرْوِي عَن الْحسن وَقَتَادَة، روى عَنْهُ أهل الْكُوفَة وَالْبَصْرَة، وَكَانَ عابدا ناسكا، وَمن زعم أَنَّهُ سمع من أنس فقد وهم، تِلْكَ رِوَايَات يتفرد بهَا يَحْيَى بْن عقبَة بْن أبي الْعيزَار وَهُوَ واه، وَسَعِيد بْن زيد أَخُو حَمَّاد بْن زيد."
الثانية: سعيد بن زيد، وهو صدوق له أوهام.
ترجم له الذهبي في "تاريخ الإسلام" (4/476)، فقال: "وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَقَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَلَيَّنَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيّ: سَمِعْتُ يَحْيَى ضَعَّفَ سَعِيدَ بن زيد، وقال: مَا يَسْوَى هَذِهِ، وَعَنِ ابْنِ مَعِينٍ أَيْضًا تَضْعِيفُهُ."
وقال ابن حجر في "التقريب" (2312): "صدوق له أوهام."
ثانيا:
قد أثنى الله تعالى على عباده الصالحين، وذكر المتقين وما أعد لهم عنده، مما هو خير من الدنيا وزينتها، فقال: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ آل عمران/15-17
جاء في "التفسير الوسيط" – مجمع البحوث الإسلامية – (1/533):
" هذه الأوصاف الكريمة، هي بقية أوصاف المتقين، الذين وعدوا بالجنات وما فيها من نعيم مقيم.
والمعنى: الصابرين على مشاق الطاعات والنوائب، وعن مغريات المعاصي من مُتَع الحياة الدنيا. والصادقين في إيمانهم وأقوالهم وأفعالهم. والخاضعين المطيعين لتكاليف ربهم. والمنفقين لأموالهم: في حقوق الله تعالى وحقوق ذويهم، وفي أنواع البر التي ندبهم الله ورسوله إليها. والمستغفرين ربهم في أواخر الليل والناس نيام. فهم ينهضون من لذيذ المنام، وينتزعون أنفسهم من فراش الراحة والغفلة، ويطلبون غفران ربهم لما عسى أن يكون قد فَرَط منهم من ذنوب. وهم قائمون في محاريبهم، أو جالسون بين يدي مولاهم، إيثارًا لطاعة ربهم على هوى نفوسهم.
وقد جاء في فضل الطاعة في الأسحار آثار عديدة:
منها ما رواه النسائي بسند صحيح، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله سبحانه يُمهل حتى يمضيَ شطرُ الليل الأول، ثم يأمر مناديًا فيقول: هل مِنْ دَاعٍ يستجاب له؟ هل من مستغفر يُغْفَرُ له؟ هل من سائل يُعطَى؟"
وفي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "مِنْ كُلِّ اللِّيْلِ قَدْ أَوْتَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أوله وأوسطه وآخره، فانتهى وتره إلى السحَر". انتهى.
وقال العلامة ابن عاشور، رحمه الله: "وليس المقصود طلب الغفران بمجرد اللسان ولو كان المستغفر في مضجعه إذ لا تظهر حينئذ مزية لتقييد الاستغفار بالكون في الأسحار.
والأسحار: جمع سحر وهو آخر الليل. وخص هذا الوقت لكونه يكثر فيه أن يغلب النوم على الإنسان فيه فصلاتهم واستغفارهم فيه أعجب من صلاتهم في أجزاء الليل الأخرى. وجمع الأسحار باعتبار تكرر قيامهم في كل سحر." انتهى من "التحرير والتنوير" (26/350).
والحاصل:
أن حديث "أمرنا أن نستغر الله بالسحريات سبعين مرة" وإن كان ضعيفا لا يثبت؛ إلا أن فضل قيام الليل والاستغفار بالأسحار ثابت بنص الكتاب المنزل، وهو معروف فاش في أحوال السلف، وآثارهم.
وينظر للفائدة جواب الأسئلة التالية:
تفسير قوله تعالى : (الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار)
فضل الدعاء في الثلث الأخير من الليل
والله أعلم.