الحمد لله.
أولا:
جاء في قصة سارة رضي الله عنها ما روى مسلم (2371) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَطُّ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ، ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللهِ، قَوْلُهُ: إِنِّي سَقِيمٌ، وَقَوْلُهُ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا، وَوَاحِدَةٌ فِي شَأْنِ سَارَةَ، فَإِنَّهُ قَدِمَ أَرْضَ جَبَّارٍ وَمَعَهُ سَارَةُ، وَكَانَتْ أَحْسَنَ النَّاسِ، فَقَالَ لَهَا: إِنَّ هَذَا الْجَبَّارَ، إِنْ يَعْلَمْ أَنَّكِ امْرَأَتِي يَغْلِبْنِي عَلَيْكِ، فَإِنْ سَأَلَكِ فَأَخْبِرِيهِ أَنَّكِ أُخْتِي، فَإِنَّكِ أُخْتِي فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ مُسْلِمًا غَيْرِي وَغَيْرَكِ، فَلَمَّا دَخَلَ أَرْضَهُ رَآهَا بَعْضُ أَهْلِ الْجَبَّارِ، أَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: لَقَدْ قَدِمَ أَرْضَكَ امْرَأَةٌ لَا يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَكُونَ إِلَّا لَكَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَأُتِيَ بِهَا فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الصَّلَاةِ، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ لَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا، فَقُبِضَتْ يَدُهُ قَبْضَةً شَدِيدَةً، فَقَالَ لَهَا: ادْعِي اللهَ أَنْ يُطْلِقَ يَدِي وَلَا أَضُرُّكِ، فَفَعَلَتْ، فَعَادَ، فَقُبِضَتْ أَشَدَّ مِنَ الْقَبْضَةِ الْأُولَى، فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ، فَفَعَلَتْ، فَعَادَ، فَقُبِضَتْ أَشَدَّ مِنَ الْقَبْضَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، فَقَالَ: ادْعِي اللهَ أَنْ يُطْلِقَ يَدِي، فَلَكِ اللهَ أَنْ لَا أَضُرَّكِ، فَفَعَلَتْ، وَأُطْلِقَتْ يَدُهُ، وَدَعَا الَّذِي جَاءَ بِهَا فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ إِنَّمَا أَتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ، وَلَمْ تَأْتِنِي بِإِنْسَانٍ، فَأَخْرِجْهَا مِنْ أَرْضِي، وَأَعْطِهَا هَاجَرَ. قَالَ: فَأَقْبَلَتْ تَمْشِي، فَلَمَّا رَآهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ انْصَرَفَ، فَقَالَ لَهَا: مَهْيَمْ؟ قَالَتْ: خَيْرًا، كَفَّ اللهُ يَدَ الْفَاجِرِ، وَأَخْدَمَ خَادِمًا).
فإبراهيم عليه السلام لم يترك سارة أو يرسلها إلى الجبار اختيارا، وإنما فعل ذلك اضطرارا، لأنه جبار ملك في أرضه، لكنه أمر سارة أن تستعمل التورية فتقول إنها أخت إبراهيم وليست زوجته، لأنه لو علم أنها زوجته لقتله وأخذها، بخلاف ما لم علم أنها أخته فقد يطلبها للزواج، فيجد إبراهيم عليه السلام أثناء ذلك مخرجا للتخلص من ذلك والخروج من أرض الجبار.
وهذا أظهر المعاني التي قيلت في تعليل ذلك.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
"واختلف في السبب الذي حمل إبراهيم على هذه الوصية مع أن ذلك الظالم يريد اغتصابها على نفسها، أختا كانت أو زوجة؟
فقيل: كان من دين ذلك الملك أن لا يتعرض إلا لذوات الأزواج. كذا قيل، ويحتاج إلى تتمة وهو أن إبراهيم أراد دفع أعظم الضررين بارتكاب أخفهما، وذلك أن اغتصاب الملك إياها واقع لا محالة، لكن إن علم أن لها زوجا في الحياة حملته الغيرة على قتله وإعدامه، أو حبسه وإضراره، بخلاف ما إذا علم أن لها أخا، فإن الغيرة حينئذ تكون من قبل الأخ خاصة، لا من قبل الملك، فلا يبالي به.
وقيل: أراد إن علم أنك امرأتي ألزمني بالطلاق.
والتقرير الذي قررته جاء صريحا عن وهب بن منبه، فيما أخرجه عبد بن حميد في تفسيره من طريقه.
وقيل: كان من دين الملك أن الأخ أحق بأن تكون أخته زوجته من غيره، فلذلك قال: هي أختي، اعتمادا على ما يعتقده الجبار فلا ينازعه فيها.
وتُعقّب بأنه لو كان كذلك لقال: هي أختي وأنا زوجها، فلم اقتصر على قوله هي أختي؟
وأيضا: فالجواب إنما يفيد لو كان الجبار يريد أن يتزوجها، لا أن يغتصبها نفسها.
وذكر المنذري في حاشية السنن، عن بعض أهل الكتاب: أنه كان من رأي الجبار المذكور: أن من كانت متزوجة لا يقربها حتى يقتل زوجها، فلذلك قال إبراهيم هي أختي؛ لأنه إن كان عادلا خطبها منه، ثم يرجو مدافعته عنها، وإن كان ظالما خلص من القتل.
وليس هذا ببعيد مما قررته أولا. وهذا أخذ من كلام ابن الجوزي في مشكل الصحيحين، فإنه نقله عن بعض علماء أهل الكتاب، أنه سأله عن ذلك، فأجاب به" انتهى من "فتح الباري" (6/ 392).
ثانيا:
لا يجوز ترك الزوجة للمغتصبين ولو تيقن الزوج بأنه سيُقتل، بل يلزمه أن يدافع عن عرضه، فإن قتل فهو شهيد.
روى أحمد (1652)، والنسائي (4094)، والترمذي (1421) عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ).
قال في "تحفة الأحوذي" (4/ 566): " (وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ) : أَيْ فِي الدَّفْعِ عَنْ بُضْعِ حَلِيلَتِهِ ، أَوْ قَرِيبَتِهِ" انتهى.
قال النووي رحمه الله :" وأما المدافعة عن الحريم : فواجبة ؛ بلا خلاف" انتهى من "شرح صحيح مسلم" (2 / 165) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " وأما الدفع عن الحرمة : مثل أن يريد الظالم أن يفْجُر بامرأة الإنسان ، أو ذات محرمه ، أو بنفسه ، أو بولده ونحو ذلك ، فهذا يجب عليه الدفع ، لأن التمكين من فعل الفاحشة : لا يجوز ...
وإذا لم يندفع إلا بالقتال ، وهو قادر عليه : قاتل " انتهى من "جامع المسائل" (4 / 230) .
وقال في "شرح منتهى الإرادات" (3/ 385): "(ويجب) الدفع (عن حرمته) إذا أريدت . نصا [أي: نص على ذلك الإمام أحمد]؛ فمن رأى مع امرأته أو بنته ونحوها، رجلا يزني بها، أو مع ولده ونحوه رجلا يلوط به: وجب عليه قتله، إن لم يندفع بدونه؛ لأنه يؤدي به حق الله تعالى من الكف عن الفاحشة، وحق نفسه بالمنع عن أهله، فلا يسعه إضاعة الحقين" انتهى.
وقد ذكرنا في جواب السؤال رقم : (228854) أن الإنسان يدافع عن عرضه ، حتى ولو غلب على ظنه أنه سيقتل ؛ لأن دفاعه هذا يحقق أحد المقصدين :
إما حماية العرض، إذا كان يعلم أنّ هذا القتال يحقق هذه الحماية، ويكفّ المتعدي .
أو القيام بما شرع له من الجهاد، ومقاومة الظلم، إن غلب على ظنه القتل وعدم تحقق كفّ شرّ المعتدي . وينظر ما نقلناه عن شيخ الإسلام في ذلك.
ثالثا:
أما المال فللإنسان أن يدافع عن ماله، ولا يجب ذلك على الأرجح، لا سيما إذا كان في دفاعه احتمال ذهاب نفسه.
وقد روى مسلم (140) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: (فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ) قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: (قَاتِلْهُ) قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: (فَأَنْتَ شَهِيدٌ)، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: (هُوَ فِي النَّارِ)".
قال النووي رحمه الله: " فَفِيهِ جَوَاز قَتْل الْقَاصِد لِأَخْذِ الْمَال بِغَيْرِ حَقّ ، سَوَاء كَانَ الْمَال قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا ، لِعُمُومِ الْحَدِيث. وَهَذَا قَوْلٌ لِجَمَاهِير الْعُلَمَاء.
وَقَالَ بَعْض أَصْحَاب مَالِك : لَا يَجُوز قَتْله إِذَا طَلَبَ شَيْئًا يَسِيرًا، كَالثَّوْبِ وَالطَّعَام.
وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَالصَّوَاب مَا قَالَهُ الْجَمَاهِير.
وَأَمَّا الْمُدَافَعَة عَنْ الْحَرِيم: فَوَاجِبَة بِلَا خِلَاف.
وَفِي الْمُدَافَعَة عَنْ النَّفْس بِالْقَتْلِ: خِلَاف فِي مَذْهَبنَا وَمَذْهَب غَيْرنَا.
وَالْمُدَافَعَة عَنْ الْمَال جَائِزَة غَيْر وَاجِبَة . وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَلَا تُعْطِهِ) : فَمَعْنَاهُ لَا يَلْزَمك أَنْ تُعْطِيَهُ ؛ وَلَيْسَ الْمُرَاد تَحْرِيم الْإِعْطَاء " انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " واتفق العلماءُ على أن قُطَاعَ الطريق إذا تعرَّضوا لأبناءِ السبيل يُريدون أموالَهم : فإن لهم أن يقاتلوهم دفعًا عن أموالِهم، إذا لم يندفعوا إلاّ بالقتال، ولا يجب عليهم أن يبذلوا لهم من المال، لا قليلاً ولا كثيرًا، لا الثلث ولا غير الثلث، لكن إن أحبُّوا هم أن يبذلوا ذلك، ويتركوا القتال: فلهم ذلك، وليس بواجب عليهم، إلاّ أن يكونوا عاجزين عن القتال، فحينئذ يُصالِحونهم بما أمكن، ولا يُقاتِلون قتالاً تذهبُ فيه أنفسُهم وأموالُهم.
وأما الوجوب: فلا يجب عليهم الدفعُ عن أموالِهم، بل لهم أن يقاتلوا عنها، ولهم أن يبذلوها، لأنّ إعطاء المال لهم جائز، وإمساكه عنهم جائز، والعبد يَفعَلُ أصلحَ الأمرينِ عنده...
وأما دفعُه عن دمِه فهو جائز أيضًا، لكن في وجوبِه قولانِ للعلماء، هما روايتان عن أحمد" انتهى من "جامع المسائل" (4 / 229) .
وقال في "شرح منتهى الإرادات" (3/ 385): " (لا عن ماله) أي: لا يجب عليه دفع من أراد ماله، لأنه ليس فيه من المحذور ما في النفس.
(ولا يلزمه) أي: رب المال (حفظه عن الضياع والهلاك، وله بذله) لمن أراده منه ظلما، وذكر القاضي أنه أفضل من الدفع عنه.
قال أحمد في رواية حنبل: أرى دفعه إليه، ولا يأتي على نفسه؛ لأنها لا عوض لها.
وقال المروذي وغيره: قال أبو عبد الله: لا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها " انتهى.
فتبين بهذا الفرق بين العرض والمال، فيجب الدفاع عن العرض دون المال.
والله أعلم.