الحمد لله.
كون الحكم على رواة الأحاديث بالجرح والتعديل يحتاج إلى البحث في معرفة عدالة المعدلين والمجرحين لهم والسند إليهم، وهذا يؤدي إلى تسلسل يبطل حجية هذا العلم وفائدته.
كل هذا يُتصوّر إذا أخذت هذه المسألة كمسألة نظرية في الذهن مفصولة عن الواقع، وأما إذا أخذنا هذا العلم كما هو في واقعه التاريخي، فلا يظهر هذا الإشكال أبدا؛ للآتي:
أولا:
هذا العلم ليس جديدا بحيث نفتح صفحات رواة ماتوا قبل عصرنا بمئات السنين، لنستأنف البحث عن حالهم من جديد فنقع في مسألة التسلسل، بل هذا العلم ساير مرحلة الرواية من بدايتها، من عهد الصحابة رضوان الله عليهم.
كما قال ابْنِ سِيرِينَ: "لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الْإِسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ، قَالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ، فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ، وَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلَا يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ" رواه مسلم في "مقدمة صحيحه"(1/15).
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله تعالى:
" وقوله: (فلما وقعت الفتنة قالوا : سموا لنا رجالكم) هذه الفتنة يعني بها - والله أعلم -: فتنة قتل عثمان، وفتنة خروج الخوارج على علي ومعاوية؛ فإنهم كفروهما حتى استحلوا الدماء والأموال...
فيعني بذلك - والله أعلم -: أن قتلة عثمان والخوارج لما كانوا فساقا قطعا، واختلطت أخبارهم بأخبار من لم يكن منهم، وجب أن يبحث عن أخبارهم فترد، وعن أخبار غيرهم ممن ليس منهم فتقبل، ثم يجري الحكم في غيرهم من أهل البدع كذلك " انتهى من"المفهم" (1/123).
وقال العلائي رحمه الله تعالى:
" وقول ابن سيرين: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد حتى وقعت الفتنة فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم".
قلت: لأن المبتدعة كذبت أحاديث كثيرة تشيد بها بدعتها، قال ابن عباس رضي الله عنه -لما بلغه ما وضعه الرافضة من أهل الكوفة على علي رضي الله عنه-: " قاتلهم الله أي علم أفسدوا". رواه مسلم في مقدمة صحيحه أيضا.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: كان ابن سيرين، وعروة بن الزبير، وطاووس، وإبراهيم النخعي، وغير واحد من التابعين؛ يذهبون إلى أن لا يقبلوا الحديث إلا عن ثقة يعرف ما يروي، ويحفظ، وما رأيت أحدا من أهل الحديث يخالف هذا المذهب " انتهى من "جامع التحصيل" (ص69– 70).
ثم هذه الروايات قد قيدت في مصنفات وحفظت في زمن مبكر، وحفظت هذه الكتب إلى زمننا.
ثانيا:
هذا العلم يدور في كل عصر من عصور الرواية على علماء أعلام لا حاجة إلى البحث في مدى عدالتهم وثقتهم؛ لأنها ثابتة بالتواتر، واجتمعت الأمة عليهم، فكانوا لنا مفتاحا لمعرفة من عاصرهم من الرواة، كالإمام مالك في عصره وبلده، وكالإمام أحمد، وهكذا، وبعض هؤلاء الأعلام لا حاجة للبحث في مدى صحة السند إليهم؛ لأن كلامهم حفظ في مصنفاتهم أو مصنفات تلاميذهم، كحال الإمام أحمد وابن معين والبخاري وابن حبان وأبي حاتم وأبي زرعة الرازيين وابن عدي وغيرهم من علماء الجرح والتعديل.
قال ابن عدي رحمه الله تعالى:
" وقد أقام الله عز وجل قوما من صحابة نبينا صلى الله عليه وسلم، والتابعين بعدهم، وتابعي التابعين وإلى يومنا هذا من يبين أحوالهم، وينبه على الضعفاء منهم، ويعتبر رواياتهم ليعرف بذلك صحيح الأخبار من سقيمها...
وهم في المرتبة التي يُسْمَع ذلك منهم، ويقبل قولهم فيهم لمعرفتهم بهم " انتهى من"الكامل في ضعفاء الرجال" (1/78).
ثالثا:
شطر كبير من أحكام الجرح والتعديل، يستطيع أهل العلم والباحثون اليوم الوقوف على أدلتها والتأكد منها؛ لأن هذه الأحكام مبنية على سبر ودراسة مرويات الراوي ومقارنتها بمرويات غيره ممن شاركه في رواياته.
قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى:
" فبجمع هذه الروايات ومقابلة بعضها ببعض، تتميز صحيحها من سقيمها، وتتبين رواة ضعاف الأخبار من أضدادهم من الحفاظ " انتهى من"التمييز" ص/209.
وقال الشيخ عبد الرحمن المعلمي رحمه الله تعالى:
" من الأئمة من لا يوثِّق من تقدمه حتى يطلع على عدة أحاديث له تكون مستقيمة، وتكثر حتى يغلب على ظنه أن الاستقامة كانت ملكة لذاك الراوي، وهذا كله يدل على أن جل اعتمادهم في التوثيق والجرح إنما هو على سبر حديث الراوي، وقد صرح ابن حبان بأن المسلمين على الصلاح والعدالة حتى يتبين منهم ما يوجب القدح، نص على ذلك في "الثقات" وذكره ابن حجر في "لسان الميزان" (1/14) واستغربه، ولو تدبر لوجد كثيراً من الأئمة يبنون عليه، فإذا تتبع أحدهم أحاديث الراوي، فوجدها مستقيمة تدل على صدق وضبط، ولَم يبلغه ما يوجب طعنا في دينه: وثقه، وربما تجاوز بعضهم هذا كما سلف، وربما يبني بعضهم على هذا حتى في أهل عصره " انتهى من"التنكيل" (1/70).
وبكل حال؛ فجميع أئمة الجرح والتعديل الذين عليهم مدار المعرفة في هذا العلم: تراجمهم وأحوالهم، معروفة، وكلام أئمة العلم في زمانهم ومن بعدهم: في بيان مرتبتهم من العلم والديانة معروفة مشهورة. ولا مجال لهذه الوسوسة الواردة في السؤال إلا ممارسة العلم، ومعرفة أحوال أهله، لا مجرد التخرصات والظنون والأوهام الكاذبة، أو السفسطة الفارغة.
والله أعلم.