الحمد لله.
أولا:
من أخذ مالا لغيره ليتاجر له به على نسبة من الربح، لا يجوز له أن يعطيه لعامل آخر دون علم صاحب المال.
قال ابن القطان رحمه الله تعالى:
" وأجمعوا أن المضارب لا يدفع المال إلى غيره مضاربة إلا بإذن ربه " انتهى. "الإقناع" (2 / 199).
فإن تصرّف بدون علم صاحب المال وأنتج ربحا، فلصاحب المال أن يأخذ ربحه ، ولا شيء للمضارب الأول.
وهل يأخذ الثاني نسبته من الربح، أو أجرة المثل، أو لا شيء له ؟
ثلاثة أقوال لأهل العلم.
قال ابن رشد رحمه الله تعالى:
" ولم يختلف هؤلاء المشاهير من فقهاء الأمصار أنه إن دفع العامل رأس مال القراض إلى مقارض آخر أنه ضامن إن كان خسران، وإن كان ربح، فذلك على شرطه، ثم يكون للذي عمل شرطه على الذي دفع إليه، فيوفيه حظه مما بقي من المال.
وقال المزني عن الشافعي: ليس له إلا أجرة مثله؛ لأنه عمل على فساد " انتهى. "بداية المجتهد" (3 / 459).
وقال ابن قدامة رحمه الله تعالى:
" وليس للمضارب دفع المال إلى آخر مضاربة. نص عليه أحمد، في رواية الأثرم، وحرب، وعبد الله، قال: إن أذن له رب المال، وإلا فلا...
وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، ولا أعرف عن غيرهم خلافهم.
فإن فعل، فلم يَتْلفِ المالُ، ولا ظهر فيه ربح: رده إلى مالكه، ولا شيء له، ولا عليه...
وإن ربح في المال، فالربح لمالكه، ولا شيء للمضارب الأول؛ لأنه لم يوجد منه مال ولا عمل.
وهل للثاني أجر مثله؟ على روايتين: إحداهما، له ذلك؛ لأنه عمل في مال غيره بعِوَضٍ لم يسلم له، فكان له أجر مثله، كالمضاربة الفاسدة.
والثانية: لا شيء له ... " انتهى. "المغني" (7 / 156 - 157).
ثانيا:
بما أنّ العامل الثاني متهم بالخيانة، والظلم، وأكل أموال الناس بالباطل، فالربح الذي استلمته منه، حكمه حكم ما تعلمه أو يغلب على ظنك من حقيقة عمله في مالك.
قال أبو عبد الله المقّري رحمه الله تعالى:
" المعتبر في الأسباب والبراءة وكلّ ما ترتبت عليه الأحكام: العلم.
ولما تعذّر، أو تعسّر، في أكثر ذلك: أقيم الظن مقامه؛ لقربه منه " انتهى. "القواعد" (1 / 289).
وعلى ذلك يقال:
إذا علمت أنه تاجر بمالك، وهذا الربح نتاج تجارة وعمل مباح: فهذا الربح لك، ولا شيء عليك، لأنه ليس من شرط الشريك أن يكون مسلما تقيا عادلا، وإنما الشرط أن تكون أرباحك من تجارة مباحة وليست من الظلم والمعاملات المحرمة.
قال الله تعالى:
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ) النساء (29).
ومثل ذلك: لو كان لهذا المضارب مال آخر حلال، سواء كان ذلك من تجارة، أو ميراث، أو ما كان؛ فأعطاك ما أعطاك من الأرباح من عين هذا المال المباح، وعلمت ذلك: فهو حلال لك، ولا شيء عليك فيه.
وأما إن غلب على ظنك أن هذه الأرباح مما اغتصبها من ناس آخرين، كما هو ظاهر الحال من سؤالك: ففي هذه الحال لا تحل لك، ويجب أن تسلمها إلى هؤلاء المظلومين الذين اغتصبت أموالهم.
وقد سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن حكم معاملة التتار وهم قوم كانوا أهل ظلم اعتدوا على بلدان المسلمين وكانت في أيديهم أموال اغتصبوها من غيرهم.
فسُئل رحمه الله تعالى:
" عن معاملة التتار: هل هي مباحة لمن يعاملونه؟
فأجاب:
أما معاملة التتار، فيجوز فيها ما يجوز في أمثالهم، ويحرم فيها ما يحرم من معاملة أمثالهم، فيجوز أن يبتاع الرجل من مواشيهم وخيلهم ونحو ذلك، كما يبتاع من مواشي التركمان والأعراب والأكراد وخيلهم...
وإن كان الذي معهم، أو مع غيرهم، أموال يعرف أنهم غصبوها من معصوم، فتلك لا يجوز اشتراؤها لمن يتملكها.
لكن إذا اشتريت على طريق الاستنقاذ، لتُصرف في مصارفها الشرعية، فتعاد إلى أصحابها إن أمكن، وإلا صرفت في مصالح المسلمين: جاز هذا... " انتهى. "مجموع الفتاوى" (29 / 275 - 276).
وجاء في "بدائع الفوائد" (3 / 1014 - 1015) لابن القيم رحمه الله تعالى:
" إذا دخل خارجي أو قاطع طريق إلى بلد، وقد غصب الأموال وسبى الذراري، هل يجوز معاملته؟
نظرتَ؛ فإن لم يكن معهم إلا ما أخذوه من الناس: لم يجز معاملتهم.
وإن كان معهم حلال وحرام: لم يجز أيضا، إلا أن يبينوه...
فأما الأموال التي في أيدي هؤلاء الغَصَبَة من الخوارج واللصوص، الذين لا يعرف لهم صناعة غير هذه الأموال المحرمة عليهم: فالعلم قد أحاط بأن جميع ما معهم حرام، فلا يجوز البيع والشراء منهم... " انتهى.
والأصل في هذه الحالة: أن الأموال التي أخذتها ترد إلى جميع من خدعهم ذلك الرجل على حسب نسبة رأس مال كل واحد منهم.
فإن تيسر لك ذلك فهو الواجب، وإن لم يتيسر ، فنرجو أنك إذا أعطيته بعض هؤلاء، وتحريت العدل بينهم بقدر استطاعتك أن هذا يكفيك .
وإن لم يتبيّن لك أمره، فالورع يقتضي التخلص من هذه الأرباح بتسليمها للمظلومين، اتقاء للشبهات.
لحديث النُّعْمَان بْن بَشِيرٍ، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( الحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ ... ) رواه البخاري (52) ومسلم (1599).
قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله تعالى:
" والشرع يحتاط لفعل الواجبات والمندوبات، كما يحتاط لترك المحرمات والمكروهات " انتهى. "قواعد الأحكام" (1 / 254).
والله أعلم.