قرأت في تويتر قبل فترة تغريدة هذا نصها: " البخاري، في رحلة استغرقت ١٦ سنة، جمع ٦٠٠ ألف حديث، يعني ٣٧٥٠٠ حديث بالسنة، يعني ٣١٢٥ حديث بالشهر، يعني ٧٨١,٢٥ حديث بالأسبوع، يعني ١١١,٦ حديث باليوم، يعني ٤,٦ حديث بالساعة، يعني لا نوم، ولا راحة، ولا أكل، ولا حمام، وفوق كل هذا المجهود لا يوجد نسخة واحده صحيحة بخط يده" فكيف يرد على هذه الشبهة، والإمام البخاري رحمه الله تعالى قد كان يغتسل ويصلي استخارة قبل أن يضع الحديث الواحد؟ فكيف بأربعة أحاديث في الساعة؟
الحمد لله.
أولا:
هذا الحساب والتقدير الذي فصلته غير صحيح ولا يوافق واقع حياة الإمام البخاري رحمه الله تعالى، وهذا لأمور:
الأمر الأول:
ستة عشر سنة هي الفترة التي قضاها في تصنيف كتابه "الصحيح"، وليست مقدار ما قضاه من الزمن في طلب وحفظ الحديث.
روى الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (2/333)، بإسناده عن عبد الرحمن بن رساين البخاري، يقول: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري، يقول: " صنفت كتابي الصحاح لست عشرة سنة، خرجته من ست مائة ألف حديث، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى".
فرقم ستمائة ألف حديث هذا، هو مجموع ما كان جمعه وانتخبه من بداية طلبه للحديث إلى وقت تصنيفه لمصنفه "الصحيح"؛ لينتخب منه بعد ذلك، وفي مقدار الست عشرة سنة المذكورة: ما يدخله في الصحيح!
وبداية طلبه للحديث كانت في زمن الطفولة.
روى الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (2/ 324-325)، بإسناده عن أبي جعفر محمد بن أبي حاتم الوراق النحوي، قال: قلت لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري: كيف كان بدء أمرك في طلب الحديث؟ قال: ألهمت حفظ الحديث وأنا في الكتاب.
قال: وكم أتى عليك إذ ذاك؟
فقال: عشر سنين أو أقل، ثم خرجت من الكتاب بعد العشر، فجعلت اختلف إلى الداخلي وغيره...
فلما طعنت في ست عشرة سنة، حفظت كتب ابن المبارك ووكيع وعرفت كلام هؤلاء... ".
الأمر الثاني:
البخاري رزق ذاكرة قوية، حيث كان سريع الحفظ، فلذا جمع من العلم ما لم يجمع غيره، وهذا باتفاق أهل العلم ممن عاصره، حيث فضلوه على كثير من علماء عصره، حتى فضله بعضهم على الإمام أحمد بن حنبل.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" وقد ذكروا أنه كان ينظر في الكتاب مرة واحدة فيحفظ ما فيه من نظرة واحدة، والأخبار عنه في هذا المعنى كثيرة.
وقد أثنى عليه علماء زمانه من شيوخه وأقرانه؛ فقال الإمام أحمد: ما أخرجت خراسان مثله. وقال علي بن المديني: لم ير البخاري مثل نفسه...
وقال محمود بن النضر أبو سهل الشافعي: دخلت البصرة والشام والحجاز والكوفة، ورأيت علماءها كلّما جرى ذكر محمد بن إسماعيل البخاري فضلوه على أنفسهم...
وقال الفلاس: كل حديث لا يعرفه البخاري فليس بحديث...
ومنهم من فضله في الفقه والحديث على الإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه...
وقال أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدرامي: محمد بن إسماعيل البخاري أفقهنا وأعلمنا وأغوصنا وأكثرنا طلبا...
وقال غيره: رأيت محمد بن يحيى الذهلي يسأل البخاري عن الأسامي والكنى والعلل، وهو يمر فيه كالسهم، كأنه يقرأ: (قل هو الله أحد )...
وقال ابن خزيمة: ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحفظ له من محمد بن إسماعيل البخاري.
ولو ذهبنا نسطر ما أثنى عليه الأئمة في حفظه وإتقانه وعلمه وفقهه وورعه وزهده وتبحره لطال علينا " انتهى. "البداية والنهاية" (14 /529–531).
فمع سرعة حفظه وقوة ذاكرته، وتفرغه التام لعلم الحديث فلم يشغل عنه بتجارة ولا عمل ولا بيع ولا شراء لما يسره الله تعالى له من الرزق؛ مع ذلك كله : لا تستبعد مثل هذه الأرقام.
الأمر الثالث:
أن هذا الرقم يدخل فيه كثير من الأحاديث المكررة، فالحديث الواحد قد يحسب بعشرات الأحاديث لتعدد أسانيده.
طالع للأهمية جواب السؤال رقم: (171298).
ثانيا:
عدم بقاء أصوله وكتبه التي جمع فيها هذه الأحاديث أثناء طلبه للعلم، ليس في هذا ما يستشكل؛ لأن علم العالم الذي يبقى عادة هو ما يحدث به طلابه، أو يدخله في مصنفاته التي يلقيها على تلاميذه فينقلونها إلى من بعدهم، ويعتني بها العلماء ويتناقلوها عبر العصور.
فلذا وصلتنا مصنفاته كـ "الصحيح"، و "الأدب المفرد" و "التاريخ" وغيرها لأنه أخرجها إلى الناس وطلابه، وما زال أهل العلم يروونها، ويدرسونها، ويتناقلونها فيما بينهم، منذ صنف البخاري صحيحه، إلى يوم الناس هذا؛ فانظر في نفس الصحيح، وتدارس ما فيه يا عبد الله ؛ ودعك عنك التخرصات، والظنون!!
والله أعلم.