الحمد لله.
ما تشعر به هو باب من الخير، وهو أن يكون هوى الإنسان فيما يحبه الله تعالى ويرضاه، فهذا الشعور من أكبر الأسباب المعينة على ملازمة العبادة، وليس هذا قادحًا في الإخلاص، بل هو من علامة الإيمان.
عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ ) رواه النسائي (3939)، وصححه الألباني في "صحيح سنن النسائي" (3 / 57).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبِي، إِلَى صِهْرٍ لَنَا مِنَ الْأَنْصَارِ نَعُودُهُ فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَقَالَ لِبَعْضِ أَهْلِهِ: يَا جَارِيَةُ ائْتُونِي بِوَضُوءٍ لَعَلِّي أُصَلِّي فَأَسْتَرِيحَ، قَالَ: فَأَنْكَرْنَا ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ( قُمْ يَا بِلَالُ فَأَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ ) رواه أبو داود (4986)، وصححه الشيخ الألباني في "صحيح سنن أبي داود" (3 / 225).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" وما من مؤمن إلا ويجد في قلبه محبة الله وطمأنينة بذكره، وتنعما بمعرفته، ولذة وسرورا بذكره ومناجاته.
وذلك يقوى ويضعف ويزيد وينقص بحسب إيمان الخلق؛ فكل من كان إيمانه أكمل كان تنعمه بهذا أكمل. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد وغيره: ( حبب إلي من دنياكم النساء والطيب - ثم قال - وجعلت قرة عيني في الصلاة )، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: ( أرحنا بالصلاة يا بلال ) " انتهى من "مجموع الفتاوى" (8/143).
وقال الشاطبي رحمه الله تعالى:
" وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت قرة عينه في الصلاة، فكان يستريح إليها من تعب الدنيا، وكان فيها نعيمه ولذته، أفيقال: إن دخوله فيها على هذا الوجه قادح فيها؟ كلا، بل هو كمال فيها، وباعث على الإخلاص فيها" انتهى. "الموافقات" (2 / 366 - 367).
وقد حث الله تعالى عباده على الأعمال الصالحة ببيان ما فيها من طيب العيش في الدنيا، وهذا يلزم منه أنه لا حرج من الجمع بين نية التعبد لله تعالى وقصد الحياة الطيبة بهذه العبادات.
كقوله تعالى:
( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) النحل/97.
قال الشيخ المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" واختلف العلماء في المراد بالحياة الطيبة في هذه الآية الكريمة...
وفي الآية الكريمة قرينة تدل على أن المراد بالحياة الطيبة في الآية: حياته في الدنيا حياة طيبة؛ وتلك القرينة هي أننا لو قدرنا أن المراد بالحياة الطيبة: حياته في الجنة في قوله: ( فلنحيينه حياة طيبة )، صار قوله: ( ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون )، تكرارا معه؛ لأن تلك الحياة الطيبة هي أجر عملهم، بخلاف ما لو قدرنا أنها في الحياة الدنيا؛ فإنه يصير المعنى: فلنحيينه في الدنيا حياة طيبة، ولنجزينه في الآخرة بأحسن ما كان يعمل، وهو واضح.
وهذا المعنى الذي دل عليه القرآن تؤيده السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت. وقد روي عن ابن عباس وجماعة: أنهم فسروها بالرزق الحلال الطيب، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنه فسرها بالقناعة، وكذا قال ابن عباس وعكرمة، ووهب بن منبه - إلى أن قال - وقال الضحاك: هي الرزق الحلال، والعبادة في الدنيا. وقال الضحاك: هي الرزق الحلال، والعبادة في الدنيا. وقال الضحاك أيضا: هي العمل بالطاعة والانشراح بها.
والصحيح: أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله... " انتهى من "أضواء البيان" (3 / 423 - 424).
فتنبيه الوحي لأثر العبادة على طيب الحياة، يشير إلى أنه لا بأس من قصد هذا الأثر مع نية التعبد لله تعالى.
كما قال الشاطبي رحمه الله تعالى:
" وهذا بلا شك تحريض على العمل بحظوظ النفوس، فلو كان طلب الحظ قادحا في العمل، لكان القرآن مذكرا بما يقدح في العمل، وذلك باطل باتفاق، فكذلك ما يلزم عنه " انتهى من "الموافقات" (2/350).
وإنما الممنوع هو قصد متاع الدنيا المنافي لمعنى "التعبد" لله؛ كحب الشهرة بين الناس، أو كمن يصلي ليحسن الناس الظن به فيتصدّق عليه، أو ليزوّج، ونحو هذا.
قال الشاطبي رحمه الله تعالى:
" فحظوظ النفوس المختصة بالإنسان لا يمنع اجتماعها مع العبادات، إلا ما كان بوضعه منافيا لها، كالحديث، والأكل، والشرب، والنوم، والرياء، وما أشبه ذلك.
أما ما لا منافاة فيه، فكيف يقدح القصد إليه في العبادة؟ هذا لا ينبغي أن يقال" انتهى من "الموافقات" (2/372).
ثانيا:
ما ذكرته في آخر السؤال يبيّن لك أن ما أنت فيه لا يخلّ بالعبادة، وإنما مصدر هذه الفكرة وساوس الشيطان لتحزن وتترك العبادة، فهو يحتال على المتعبد بمثل هذا، كما قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
" وقد لبَّس إبليس على قوم فتركوا كثيرا من السنن لواقعات وقعت لهم، فمنهم من كان يتأخر عن الصف الأول ويقول: إنما أراد قرب القلوب، ومنهم من لم يضع يدا على يد في الصلاة وقال: أكره أن أظهر من الخشوع ما ليس في قلبي.
وقد روينا هذين الفعلين عن بعض أكابر الصالحين.
وهذا أمر أوجبه قلّة العلم، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لو يعلم الناس ما لهم في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا )، وفي أفراد مسلم من حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها )... " انتهى من "تلبيس إبليس" (2 / 795).
فالحاصل؛ أن ما تجده من لذة العبادة: هو من نعمة الله تعالى عليك، التي من حقها أن تشكر ولا تكفر، ومن الخير الذي عليك أن تحافظ عليه لأنه معين لك على ملازمة العبادة.
وراجع للفائدة كتاب الشيخ عمر سليمان الأشقر رحمه الله تعالى : "مقاصد المكلفين" خاصة الفصل الثاني من الباب الثاني: "مفهومات خاطئة للإخلاص".
حيث قال في آخره:
" اتضح مما مضى: أن المقصود الذي يجب أن يتوجه إليه العبد هو الله وحده، وأن هذا هو الإخلاص الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه.
إلاّ أنَّ المقاصد تتنوع فيما بينها، ذلك أنَّ العباد يقصدون ربَّهم من جوانب مختلفة، فمنهم الذي يعبده تعظيما له وتوقيرا، ومنهم الذي يقصد الدخول في طاعته وعبادته، ومنهم الذي يطلب رضوانه ورضاه، ومنهم الذي يقصد الأنس به، والتلذذ بطاعته وعبادته...
وكلّها تنتهي إلى غاية واحدة، وتعني في النهاية شيئا واحدا، أنّ العبد يريد الله سبحانه، ولا يريد سواه، وكل ذلك محقق للإخلاص.
وأصحاب هذه المقاصد على الصراط المستقيم، وعلى الهدى والصواب، وإن كان العبد لا ينبغي أن يخلي قصده من الحبّ والخوف، فإن قوام العبادة بهما، ومدارها عليهما " انتهى من "مقاصد المكلفين" (ص 409).
والله أعلم.