ما رأيكم بظاهرة تأخير الزواج إلى بعد التخرج من الجامعة أو نيل الوظيفة الدخيلة على مجتمعاتنا المسلمة؟ آمل منكم التوجية للآباء والأمهات والمجتمع بشكل عام بهذا الأمر؛ لأن الأمر فعلا أصبح لا يطاق، فلا يعقل أن يتحمل المسلم ١٠ سنوات أو أكثر بعد البلوغ والنضوج يصارع ويدافع الشهوة، فأين حصلت في تاريخ المسلمين؟ دعكم من المسلمين، بل في تاريخ العالم كله، فالآن نرى في الدول الكافرة التي أدخلت هذا الفكر علينا الحوامل وهن في المرحلة الإعدادية!، لأنهم يعلمون أن إشباع هذه الغريزة لابد منه، لكنهم في فساد كبير، لذا لا يشبعونها ويستعملونها بشكل سوي، وهذه الغريزة لم تخلق لتدافع كأنها مرض، إنما هي رحمة من الله بعباده؛ ليتناسلوا، وليسكنوا لبعضهم، ولتحقيق مصالح عظيمة، واليوم لكثرة الفساد الأخلاقي الذي انتشر الآن في المجتمعات المسلمة أصبح الكثير من الشباب والبنات لا يبالي ولا يهتم بالزواج؛ لأن كثير منهم يشبعون غريزتهم بشكل غير سوي أو محرم، عافانا الله تعالى وإياهم، لكن من يخاف الله ولا يفعل المحرمات هو من يعاني من هذه القيود التي وضعها خفاف العقول، ولم تجلب لنا إلا الهم والأمراض النفسية والجسدية، وأنا أعلم أن الله تعالى يجعل لمن يتقيه مخرجا وفرجا، وموقنة بهذا، لكن أريد منكم توجيه المجتمع للخروج من هذه المصيبة التي انتشرت، فلا يعقل أن يكون الشاب والشابة في كامل قوتهم ولا يزوجون إلا في عمر ٢٥، ٢٨، ٢٩ أو أكثر، فهذه كارثة، قليل من يتكلم عنها، وينتبه لها، نسأل الله تعالى أن يعافينا ويعفو عنا.
الحمد لله.
أولا :
الأخت الكريمة زادك الله فقها، لعل ما ذكر في السؤال أحاط بالفائدة، وهو كلام شاف وكاف، حول هذه المعضلة الاجتماعية والأخلاقية.
فالله سبحانه وتعالى جعل هذا الميل المتبادل بين الجنسين نعمة من نعمه، فهو وسيلة جاذبة لتكوين الأسر وتربية النسل، وتحقيق الاستقرار النفسي، مع مصالح وحِكَم أخرى كثيرة .
قال الله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ الروم/21.
وحتى لا تستعمل هذه النعمة في ما يخالف الفطرة السليمة والأخلاق الحميدة، ضبطها الشرع، بأمر الشباب إلى المبادرة إلى الزواج ليتحقق المقصود الشرعي من هذا الميل بين الجنسين.
عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ رواه البخاري(5066)، ومسلم(1400).
والحديث يشير إلى تأكد هذا الأمر إذا خاف الشاب على نفسه الفتنة: فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ.
وقد يصل الأمر إلى الوجوب إن شعر أنه يفقد السيطرة على شهوته وأنه سيقع في الحرام إن لم يتزوج.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" فإذا خاف الزنا لوجود أسبابه وانتفاء موانعه، صار النكاح في حقه واجبا دفعا لهذه المفسدة؛ لأن ترك الزنا واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب " انتهى من"الشرح الممتع" (12/8).
لكن كثيرا من الآباء، يخطئون في حق أولادهم بمنعهم من الزواج مع رغبتهم فيه، وذلك إما بالمغالاة في المهور والشروط، أو باعتقاد أن الزواج معيق عن الدراسة والتحصيل العلمي، أو تشبث الآباء بفكرة أن على الابن أن يزوج نفسه، مع أن كثيرا من هؤلاء الآباء لهم قدرة مالية على تزويج أولادهم، والنفقة عليهم بعد الزواج.
ثانيا :
اعتقاد الآباء أن تأخير الزواج لأولادهم هو الصواب والأصلح، مكابرة للواقع المَعِيش.
فعدم زواج الشباب لم يقطع شهواتهم، ولم يحسّن المستوى الدراسي للكثير منهم، لكنه سحب كثيرا منهم إلى طريق الفواحش والعادات السيئة، فلم يستفيدوا إلا مزيدا من السيئات، وتفريغ شهوته في الحرام، فأهلكت جمعا منهم وسلختهم من دينهم، وولّدت عند جمع آخر منهم قلقا نفسيا رهيبا تلمحه في كثرة الاستشارات الموجهة للمختصين في العلم الشرعي أو في الطب النفسي، حول فقدهم السيطرة على أنفسهم، ومعاناتهم مع مجموعة من الحيل من أجل التخلص من دوامة الشهوات هذه، لكن هذه الحيل تزيد من همومهم، كالنذر والعهد وعدم القدرة على الوفاء بهما، والآباء غير مبالين بما يصيب أولادهم، فهم إما غافلون أو متغافلون.
ولا ينتبه هؤلاء الآباء أن الواجب عليهم التلطف في وقاية أولادهم من النار.
قال الله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ التحريم/6.
ومن الوقاية لهم مساعدتهم على الزواج الذي هو من أنفع الأسباب في قطع سبل الفساد، فمن رأى أن ولده يعاني مع شهواته، فلا يرحمه ولا يساعده على صرفها في طريق مباح وهو الزواج، فهو غاش له مضيع للأمانة.
عَنِ مَعْقِلَ بْن يَسَارٍ رضي الله عنه قال : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً، فَلَمْ يَحُطْهَا بِنَصِيحَةٍ، إِلَّا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ رواه البخاري(7150)، ومسلم (142).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ: ... وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ رواه البخاري (2554)، ومسلم (1829).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" لا كلمة أحسن من كلمة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حيث قال: يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ.
وإنني أنصح الشباب في سرعة التزوج، لا سيما في هذا العصر الذي كثرت فيه أسباب الفتن والمغريات، ولذلك تجد كثيراً من الشباب يعاني من مشقة العزوبة، ولولا ما عنده من الإيمان بالله عز وجل لذهب يتصيد الفاحشة.
ثم إني أقول: إن كان الشاب عنده مال يكفيه لزواجه فهذا هو المطلوب أن يتزوج به، وإن لم يكن عنده مال وجب على أبيه أن يزوجه إذا كان قادراً على ذلك، كما يجب عليه أن ينفق عليه طعاما وشرابا وكسوة وسكنا، ولا يحل لأحد أغناه الله، وبلغ أبناؤه سن النكاح، وطلبوا منه ذلك، إما بأقوالهم الصريحة، وإما بأفعالهم الدالة على طلب النكاح؛ لا يحل له أن يمتنع، بل يجب عليه أن يزوجهم، فإن لم يفعل فهو آثم، ولا يبارك الله له في ماله.
يقول بعض الجهال من الآباء لأبنائهم إذا طلبوا منه النكاح يقول المثل السائر الجائر: "ما يحك ظهرك غير ظفرك"؛ وأنت بنفسك: حصِّلْ ما تتزوج به، وإلا فلا أزوجك!!
فهذا حرام عليهم، ما داموا قادرين والأبناء عاجزين" انتهى من"فتاوى نور على الدرب" (10/ 15).
ثالثا :
حل هذه المعضلة الاجتماعية ليست مسئولية الآباء وحدهم، وإنما هي مسئولية المجتمع كله، الذي يغالي ويسرف في تكاليف الزواج، كالمهر والشقق والبيوت والحفلات ... إلخ، ثم يغالي ويسرف أكثر في أعباء الحياة وتكاليف المعيشة، فنجد الإسراف في الأثاث والملابس والطعام والشراب والسيارات والسفر والرحلات ... وإنفاق الأموال الكثيرة فيما لا يعود على صاحبه بنفع، وقد كان الأجدر به أن ينفقها فيما ينفعه.
فعلى المجتمع كله أن يتحرر من القود والآصار التي وضع نفسه فيها، وعليه أن يعود إلى الحياة السهلة اليسيرة الخالية من الإسراف والتبذير، كما كان آباؤنا وأجدادنا، فإذا حصل ذلك أقبل الكثير من الشاب على الزواج، لأنهم يعلمون أنهم سيكونون قادرين على الإنفاق على أسرهم، وأن دراستهم لن تمنعهم من ذلك.
وشيئا فشيئا تنجلي هذه الأزمة إن شاء الله، وعسى أن يكون قريبا.
والله أعلم.