الحمد لله.
أولا:
لم يرد في الشرع تحديد لكيفية التصرف بلحم العقيقة؛ ولكن الذي عليه جمهور أهل العلم: أن العقيقة، وإن كانت تعامل معاملة الأضحية فيما يجزئ فيها، لكونها قربة.
وأما التصرف فيها بعد ذبحها: فالأمر فيه أوسع منه في الأضحية، فلو طبخها كلها: صح، ولو تصدق بجميعها: صح؛ ولو جمع بين الأمرين: فأكل منها، وأهدى، وتصدق: فهو حسن.
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
" قال مالك: من عق عن ولده فإنما هي بمنزلة النسك والضحايا...
لا يباع من لحمها شيء ولا جلدها،... ويأكل أهلها من لحمها، ويتصدقون منها...
قال أبو عمر (ابن عبد البر) : على هذا جمهور الفقهاء أنه يجتنب في العقيقة من العيوب ما يجتنب في الأضحية، ويؤكل منها ويتصدق ويهدى إلى الجيران" انتهى من"الاستذكار" (15/ 384).
ومن طبخ الشطر الذي يتصدق به ودعا إليه الفقراء، أو طبخ الشطر الذي يهديه ودعا إليه من يرغب، فقد حقق المقصود.
قال النووي رحمه الله تعالى:
" قال أصحابنا: والتصدق بلحمها ومرقها على المساكين بالبعث إليهم أفضل من الدعاء إليها، ولو دعا إليها قوما جاز، ولو فرق بعضها ودعا ناسا إلى بعضها جاز" انتهى من"المجموع" (8 / 430).
وقال ابن قدامة رحمه الله تعالى:
" والأشبه قياسها على الأضحية؛ لأنها نسيكة مشروعة غير واجبة، فأشبهت الأضحية، ولأنها أشبهتها في صفاتها وسنها وقدرها وشروطها، فأشبهتها في مصرفها.
وإن طبخها، ودعا إخوانه فأكلوها، فحسن" انتهى من"المغني"(13/400).
لكن كره ذلك الإمام مالك رحمه الله تعالى وهو المشهور في المذهب، وعلة ذلك أنه لم يدرك أهل المدينة يفعلون ذلك – وليس جميع السلف الصالح – وخوفا من ضياع أجر العقيقة لما يدخل في الولائم من التفاخر.
قال ابن رشد رحمه الله تعالى:
" قال ابن القاسم: وسمعت مالكا عن العقيقة كيف يصنع بها؟ أتطبخ ألوانا، ويدعى لها الرجال؟ قال مالك: أما الأمر عندنا، فإنها تذبح يوم السابع وتطبخ ويأكل منها أهل البيت، ويطعم منها الجيران، فأما أن يدعى الرجال، فإني أكره الفخر، وهذا الأمر عندنا في أن يأكل منها أهل البيت، ويطعم الجيران، ويسمى الصبي يوم السابع.
قال محمد بن رشد: لما كانت شاة العقيقة نسكا لله، وقربة إليه؛ استحب ألا يعدل فيها عن سيرة السلف الصالح، أن يأكل منها أهل البيت، ويطعم منها الجيران، وكره أن تطبخ ألوانا فيدعى إليها الرجال؛ لئلا يدخل ذلك الفخر، فتفسد بذلك النية في معنى الطاعة لله بها والقرب، فإن أراد أن يدعو الرجال صَنَع من غيرها، ودعا عليها على ما قال بعد هذا في سماع أشهب، بعد أن يمضي النسك بنية خالصة لله، لا يشوبها شيء، يتقي أن يفسدها " انتهى من"البيان والتحصيل" (3 / 386).
وبناء على هذا، فإن خلت الدعوة من المفاخرة، فلا بأس بذلك.
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
" ولو دعا الناس إليها من غير مباهاة: لم يكن بذلك بأس" انتهى من"الكافي"(1/426).
ومما يدل على عدم بدعية هذا الصنيع في المذهب المالكي، أنهم جعلوا إجابة الدعوة إلى العقيقة جائزا.
قال ابن رشد رحمه الله تعالى:
" ومنها – أي الدعوات - ما يجوز إجابة الداعي إليها ولا حرج في التخلف عنها، وهو ما سوى دعوة الوليمة من الدعوات التي تصنع على جري العاديات، دون مقصد مذموم؛ كدعوة العقيقة... " انتهى من"البيان والتحصيل"(2/328).
فالحاصل؛ أن من صنع من لحم العقيقة طعاما، ودعا إليه من غير تفاخر، فلا بأس بهذا .
بل ذكر ابن القيم رحمه الله أن طبخ لحم العقيقة والدعوة إليه أفضل من تفريقها، فقال: " فإن الأطعمة المعتادة التي تجري مجرى الشكران، كلها سبيلها الطبخ.
ولها أسماء متعددة:
فالقرى طعام الضيفان، والمأدبة طعام الدعوة، والتحفة طعام الزائر، والوليمة طعام العرس، والخُرس طعام الولادة، والعقيقة الذبح عنه يوم حلق رأسه في السابع...
فكان الإطعام عند هذه الأشياء أحسن من تفريق اللحم، وأدخل في مكارم الأخلاق والجود" انتهى من"تحفة المودود"(ص108–109).
ثانيا:
وأما ما رواه البخاري في "الأدب المفرد" (1255)، قال: حدثنا محمد، قال: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حَزْمٌ، قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ قُرَّةَ يَقُولُ:" لَمَّا وُلِدَ لِي إِيَاسٌ دَعَوْتُ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَطْعَمْتُهُمْ، فَدَعَوْا، فَقُلْتُ: إِنَّكُمْ قَدْ دَعَوْتُمْ فَبَارَكَ اللَّهُ لَكُمْ فِيمَا دَعَوْتُمْ، وَإِنِّي إِنْ أَدْعُو بِدُعَاءٍ فَأَمِّنُوا، قَالَ: فَدَعَوْتُ لَهُ بِدُعَاءٍ كَثِيرٍ فِي دِينِهِ، وَعَقْلِهِ، وَكَذَا، قَالَ: فَإِنِّي لَأَتَعَرَّفُ فِيهِ دُعَاءَ يَوْمِئِذٍ".
وصحح هذا الإسناد الشيخ الألباني في "صحيح الأدب المفرد" (ص485).
فهذا الخبر يحتمل أنه دعاهم إلى لحم العقيقة، ويحتمل أنه دعاهم إلى مجرد طعام.
لكنه يدل عموما على أن الدعوة إلى الطعام فرحا بالمولود من هدي السلف الصالح، وأنه ليس بمستنكر.
قال ابن رشد رحمه الله تعالى:
" وأما من غير شاة العقيقة فلا بأس بذلك، وقد كان عبد الله بن عمر وغيره من السلف يدعون على الولاد والختان، ولا بأس على من دعي إلى ذلك أن يجيب إليه " انتهى من"البيان والتحصيل" (3/395).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" وإطعام الطعام عند حوادث السرور العظام، شكرا لله وإظهارًا لنعمته التي هي غاية المقصود من النكاح، فإذا شرع الإطعام للنكاح الذي هو وسيلة إلى حصول هذه النّسمة؛ فلأن يشرع عند الغاية المطلوبة أولى وأحرى.
وشرع بوصف الذبح المتضمن لما ذكرناه من الحِكَم، فلا أحسن ولا أحلى في القلوب من مثل هذه الشريعة في المولود.
وعلى نحو هذا جرت سنة الولائم في المناكح وغيرها، فإنها إظهار للفرح والسرور بإقامة شرائع الإسلام، وخروج نسمة مسلمة يكاثر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمم يوم القيامة تعبدا لله، ويراغم عدوه " انتهى من"تحفة المودود"(ص100).
والله أعلم.