ما صحة الحديث: (من قرأ القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيه غير أنه لا يوحى إليه، لا ينبغي لصاحب القرآن أن يجد مع من وجد، ولا يجهل مع من جهل، وفي جوفه كلام الله)؟ وإذا كان هذا الحديث صحيحًا، فما المقصود بقوله (أن يجد مع من وجد)؟
الحمد لله.
أولا:
الحديث يُروى مرفوعا وموقوفا عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه ، ولا يصح مرفوعا ، وإنما هو حديث حسن موقوفا عليه ، وبيان ذلك كما يلي :
أما المرفوع فله طريقان عن عبد الله بن عمرو :
الأول : عن ثعلبة أبي الكنود ، عن عبد الله بن عمرو .
أخرجه الحاكم في "المستدرك" (2028)، ومن طريقه البيهقي في "الأسماء والصفات" (581)، من طريق عمرو بن الربيع بن طارق، عن يَحْيَى بْن أَيُّوبَ، قال ثنا خَالِدُ بْنُ أَبِي يَزِيدَ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَقَدِ اسْتَدَرَجَ النُّبُوَّةَ بَيْنَ جَنْبَيْهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُوحَى إِلَيْهِ، لَا يَنْبَغِي لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ أَنْ يَحِدَّ مَعَ مَنْ حَدَّ، وَلَا يَجْهَلَ مَعَ مَنْ جَهِلَ وَفِي جَوْفِهِ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى .
وأخرجه الآجري في "أخلاق حملة القرآن" (13) ، من طريق عبد الله بن وهب ، عن يحيى بن أيوب ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي الْكَنُودِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ به موقوفا .
وعلة هذا الطريق هو " ثعلبة بن أبي الكنود " أو " ثعلبة أبو الكنود "، فإنه مجهول الحال ، ترجم له البخاري في "التاريخ الكبير" (2/175) ، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (2/463) ، ولم يذكرا فيه جرحا ولا تعديلا ، ولم يوثقه أو يجرحه أحد .
وقد بين ابن حجر في "إتحاف المهرة" (11634) أنه " ثعلبة بن أبي الكنود " ، وليس " ثعلبة بن يزيد ".
الثاني : من طريق إسماعيل بن رافع، عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر، عن عبد الله بن عمرو مرفوعا به.
أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (13/649)، من طريق يحيى بن أبي الحجاج التميمي ، ومحمد بن نصر في "قيام الليل" (ص175) ، من طريق عيسى بن يونس ، وأبو الفضل الرازي في "فضائل القرآن" (51) ، من طريق عمر بن هارون ، ثلاثتهم عن إسماعيل بن رافع ، عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر ، عن عبد الله بن عمرو مرفوعا به .
وخالفهم عبد الله بن المبارك في "الزهد" (799) ، فرواه عن إسماعيل بن رافع ، عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر ، عن عبد الله بن عمرو موقوفا عليه .
وهذا الطريق تالف ، آفته إسماعيل بن رافع .
قال فيه ابن أبي حاتم كما في "الجرح والتعديل" (2/169) :" منكر الحديث" . اهـ ، وقال النسائي كما في "الضعفاء والمتركون" (32) ، والدارقطني كما في "سؤالات البرقاني" (9) ، والذهبي كما في "ديوان الضعفاء" (398) :" متروك ". اهـ ، وقال ابن معين كما في "الضعفاء الكبير" للعقيلي (83) :" ليس بشيء ". اهـ ، وقال ابن حبان في "المجروحين" (1/124) :" كَانَ رجلا صَالحا؛ إِلَّا أَنَّهُ يقلب الْأَخْبَار، حَتَّى صَار الْغَالِب عَلَى حَدِيثه الْمَنَاكِير الَّتِي تسبق إِلَى الْقلب أَنَّهُ كَانَ كالمتعمد لَهَا " انتهى.
وأما الموقوف فله ثلاثة طرق:
الأول:
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (29953) ، وابن الضريس في "فضائل القرآن" (65) ، والخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه" (195) ، من طريق وكيع ، قال حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ رَافِعٍ ، عَنْ رَجُلٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَال: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَكَأَنَّمَا اسْتُدْرِجَتِ النُّبُوَّةُ بَيْنَ جَنْبَيْهِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يُوحَى إِلَيْهِ.
وإسناده تالف أيضا ، فيه إسماعيل بن رافع ، وقد قدمنا ترجمته في الطريق السابق ، وفيه رجل لم يسم.
الثاني:
أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (2352) ، من طريق محرز أبي رجاء الشامي ، وأخرجه الشجري في "ترتيب الأمالي" (466) ، من طريق إسماعيل بن عمرو البجلي ، عن علي بن هاشم .
كلاهما ( أبو محرز ، علي بن هاشم ) ، عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص موقوفا .
وكلا الطريقين ضعيف .
أما الأول فيه محرز بن عبد الله أبو رجاء الشامي ، وثقه أبو داود كما في "تهذيب التهذيب" (10/57) ، إلا أنه مدلس ، ذكر ذلك ابن حبان في "الثقات" (4/504) ، فقال :" وَكَانَ يُدَلس عَنْ مَكْحُول؛ يعْتَبر بحَديثه مَا بَيّن السماع فِيهِ عَن مَكْحُول وَغَيره "، لذا قال فيه ابن حجر في "تقريب التهذيب" (6502) :" صدوق يدلس "انتهى.
وقد عنعن ولم يصرح بالتحديث .
وأما الثاني: فيه إسماعيل بن عمرو بن نجيح البجلي ، ضعفه أبو حاتم كما في "الجرح والتعديل" (2/190) ، والدارقطني كما في "الضعفاء والمتروكون" (85) ، وابن عدي في "الكامل" (1/525) ، وقال ابن حبان في "الثقات" (8/100) :" يغرب كثيرا ". اهـ ، وقال العقيلي في "الضعفاء الكبير" (1/86) :" في حديثه مناكير، ويحيل على من لا يحتمل منها ".
الثالث :
أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في "فضائل القرآن" (ص113) ، من طريق عبد الله بن صالح ، عن معاوية بن صالح ، عن أبي يحيى ، عن عبد الله بن عمرو موقوفا .
فيه: أبو يحيى مصدع الأعرج المعرقب ، قال فيه ابن حبان في "المجروحين" (3/39) :" كَانَ مِمَّن يُخَالف الْأَثْبَات فِي الروايات، وينفرد عَن الثِّقَات بِأَلْفَاظ الزِّيَادَات، مِمَّا يُوجب ترك مَا انْفَرد مِنْهَا، وَالِاعْتِبَار بِمَا وافقهم فِيهَا ". اهـ ، وقال الذهبي في "تذهيب التهذيب" (6726) :" صدوق " ، وقال ابن حجر في "التقريب" (6683) :" مقبول ".
وفيه " عبد الله بن صالح " كاتب الليث ، مشهور ، صدوق في حفظه ضعف ، وأعدل الأقوال فيه ما قاله الذهبي في "من تكلم فيه وهو موثق" (184) :" صالح الحديث له مناكير .. فتجتنب مناكيره ".
وهذا الطريق أمثل الطرق؛ فيتقوى بطريق عبد الله بن وهب ، عن يحيى بن أيوب ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي الْكَنُودِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ به موقوفا ، والذي أخرجه الآجري في "أخلاق حملة القرآن"13) ، فيكون الأثر حسنا موقوفا على عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.
والحديث ضعفه الشيخ الألباني في "السلسلة الضعيفة" (5118) مرفوعا ، وحسنه موقوفا .
وللحديث شاهد من طريق أبي أمامة ، إلا أنه لا يصح.
وقد روي عن أبي أمامة من طريقين :
الأول : أخرجه أبو الفضل الرازي في "فضائل القرآن" (49) ، من طريق مسلمة بن علي ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَاقِدٍ ، عَنْ مَكْحُولٍ ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ ، يَرْفَعُهُ ، قَالَ: مَنْ قَرَأَ رُبْعَ الْقُرْآنِ فَقَدْ أُوتِيَ رُبْعَ النُّبُوَّةِ ، وَمَنْ قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فَقَدْ أُوتِيَ ثُلُثَ النُّبُوَّةِ ، وَمَنْ قَرَأَ ثُلُثَيِ الْقُرْآنِ فَقَدْ أُوتِيَ ثُلُثَيِ النُّبُوَّةِ ، وَمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَقَدْ أُوتِيَ النُّبُوَّةَ ، غَيْرَ أَنَّهُ لا يُوحَى إِلَيْهِ .
وإسناده ضعيف جدا .
فيه " مسلمة بن علي ، قال الذهبي في "ميزان الاعتدال" (4/109) :" شامي واه .. تركوه، قال دحيم: ليس بشيء ، وقال أبو حاتم: لا يشتغل به ، وقال البخاري: منكر الحديث ، وقال النسائي: متروك ، وقال ابن عدي: عامة أحاديثه غير محفوظة ".
وفيه انقطاع كذلك ، حيث لم يسمع مكحول من أبي أمامة ، نص على ذلك أبو حاتم في "المراسيل" (791) .
الثاني :
أخرجه الباقلاني في "إعجاز القرآن" (ص186) ، من طريق بشر بن نمير ، عن القاسم ، عن أبي أمامة به مرفوعا .
وإسناده مكذوب ، فيه " بشر بن نمير " ، كذاب مشهور بالوضع ، كما في "تهذيب الكمال" (4/156) .
فخلاصة الحكم على الحديث: أنه لا يصح مرفوعا ، وإنما حسن موقوفا على عبد الله بن عمرو رضي الله عنه .
ثانيا:
وأما سؤال السائل عن معنى :" لا ينبغي لصاحب القرآن أن يجد مع من وجد ".
فقد جاء بعدة ألفاظ :
جاء بلفظ :" لَا يَنْبَغِي لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ أَنْ يَحِدَّ مَعَ مَنْ حَدَّ " ، وهي رواية الأكثر ، ومنهم الحاكم في "المستدرك" (2028) ، وغيره.
وبلفظ :" أَوْ يَحْتَدُّ فِيمَنْ يَحْتَدُّ ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ لِفَضْلِ الْقُرْآنِ ". ، كما في رواية الطبراني في "المعجم الكبير" (13/649) .
وبلفظ :" وَلَيْسَ يَنْبَغِي لِحَامِلِ الْقُرْآنِ أَنْ يَجِدَ فِيمَنْ يَجِدُ ". كما في رواية الشجري في "ترتيب الأمالي" (466) .
وأما تفسير قوله : وَلَيْسَ يَنْبَغِي لِحَامِلِ الْقُرْآنِ أَنْ يَجِدَ فِيمَنْ يَجِدُ.
قد تضبط بتشديد الدال أو بتخفيفها ، ولكل ضبط معنى :
فلو ضبط بدون تشديد يكون معناها : لا ينبغي ألا يجد في نفسه شيئا لا يليق بأهل القرآن .
ولو ضبطت بالتشديد يكون معناها : لا ينبغي له أن يتكبر أو يتعاظم أو أن يجتهد في تحصيل الدنيا اجتهاد المتعلقين بمتاع الدنيا.
وأما لفظ :" أَوْ يَحْتَدُّ فِيمَنْ يَحْتَدُّ " ، فظاهر معناه أنه من " الحدَّة " ، وهي الغضب الشديد ، ولذا جاء بعدها :" وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ لِفَضْلِ الْقُرْآنِ ".
قال البقاعي في "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" (1/254) :" ومعنى " يَجد فيمن يَجدُ ": أي يجد في نفسه شيئاً لا يليق ، أو يجد شيئا من الدنيا ، أو يحصله .
وفي بعض النسخ:" يَجدَّ فيمن جدَّ " مضاعفاً .
أي يعظم فيمن عظمَ ، أي يتكبر ، ويطلب أن يحظى ، أو يكون كثير الرزق ".
وقال علم الدين السخاوي في "جمال القراء" (1/341) :" قوله: ( أن يجدّ فيمن يجدّ ) يريد - والله أعلم - ما يجد الناس فيه من أمور الدنيا ، أو لا يتعاظم ".
وقال الرازي في "مختار الصحاح" (ص167) :" الحِدَّةُ: ما يعتري الإنسان من النزق والغضب .. واحتدَّ من الغضب، فهو مُحْتَدُّ ".
فيكون المعنى إجمالا :
ينبغي لحامل القرآن أن يزكيه القرآن ، فلا يكون حريصا على الدنيا ومتاعها ، ولا يتعاظم في نفسه ، وأن تتهذب أخلاقه ، فلا يغضب وينتقم لنفسه ، بل يعفو ويصفح .
والله أعلم .