ما معنى هذا الحديث؟ هل يشير إلى الأشخاص المتورِّطين في الفتنة كمروان أو الحجّاج؟ وما هو الموقف الصحيح تجاه مروان بن الحكم والحجّاج؟ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأُمَوِيُّ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ كُنْتُ مَعَ مَرْوَانَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فَسَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ سَمِعْتُ الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ، يَقُولُ " هَلاَكُ أُمَّتِي عَلَى يَدَىْ غِلْمَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ ". فَقَالَ مَرْوَانُ غِلْمَةٌ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُسَمِّيَهُمْ بَنِي فُلاَنٍ وَبَنِي فُلاَنٍ.
الحمد لله.
أولا:
عن عَمْرو بْنِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأُمَوِيّ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ مَرْوَانَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، فَسَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ الصَّادِقَ المَصْدُوقُ، يَقُولُ: هَلاَكُ أُمَّتِي عَلَى يَدَيْ غِلْمَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ مَرْوَانُ: غِلْمَةٌ؟
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنْ شِئْتَ أَنْ أُسَمِّيَهُمْ؛ بَنِي فُلاَنٍ، وَبَنِي فُلاَنٍ. رواه البخاري (3605).
وروى البخاري (3604) و مسلم (2917) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُهْلِكُ النَّاسَ هَذَا الحَيُّ مِنْ قُرَيْشٍ. قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: لَوْ أَنَّ النَّاسَ اعْتَزَلُوهُمْ .
والظاهر أن المراد بالأمة: مسلمي ذلك الزمن من الصحابة والتابعين، وهلاكهم بالقتل والفتن التي يدخلهم فيها هؤلاء الغلمة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
"والمراد بالأمة هنا: أهل ذلك العصر ومن قاربهم، لا جميع الأمة إلى يوم القيامة." انتهى من "فتح الباري" (13 / 10).
وقال القرطبي رحمه الله تعالى:
"لم يرد بالأمة جميع أمته من أولها إلى آخرها، بل من كان موجودا من أمته في ولاية أولئك الأغيلمة، وكان الهلاك الحاصل من هؤلاء لأمته في ذلك العصر إنما سببه: أن هؤلاء الأغيلمة لصغر أسنانهم لم يتحنكوا، ولا جربوا الأمور، ولا لهم محافظة على أمور الدين، وإنما تصرفهم على مقتضى غلبة الأهواء، وحدة الشباب." انتهى، من "المفهم" (7 / 254).
وهؤلاء الغلمة من قريش الظاهر أنهم ليسوا صغارا لم يدخلوا مرحلة الشباب، فمن تولى في عصر بني أمية لم يكونوا صغارا دون البلوغ، وإنما صغار التجربة والتدبير والدين.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
"وقال بن الأثير: المراد بالأغيلمة هنا الصبيان، ولذلك صغرهم.
قلت: وقد يطلق الصبي، والغُلَيِّم، بالتصغير: على الضعيف العقل والتدبير والدين، ولو كان محتلما، وهو المراد هنا، فإن الخلفاء من بني أمية لم يكن فيهم من استخلف وهو دون البلوغ، وكذلك من أمروه على الأعمال، إلا أن يكون المراد بالأغيلمة أولاد بعض من استخلف، فوقع الفساد بسببهم، فنسب إليهم. والأولى الحمل على أعم من ذلك." انتهى من "فتح الباري" (13 / 9).
وأما من هم الغلمة؟ فالظاهر أنهم الولاة من دولة بني أمية الذين جرت الفتنة على أيديهم، وأولهم يزيد بن معاوية.
قال القرطبي رحمه الله تعالى:
"وهؤلاء الأغيلمة كان أبو هريرة رضي الله عنه يعرف أسماءهم وأعيانهم، ولذلك كان يقول: لو شئت قلت لكم: هم بنو فلان، وبنو فلان، لكنه سكت عن تعيينهم، مخافة ما يطرأ من ذلك من المفاسد، وكأنهم والله تعالى أعلم يزيد بن معاوية، وعبيد الله بن زياد، ومن تنزل منزلتهم من أحداث ملوك بني أمية، فقد صدر عنهم من قتل أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبيهم، وقتل خيار المهاجرين والأنصار بالمدينة، وبمكة وغيرها، وغير خاف ما صدر عن الحجاج وسليمان بن عبد الملك، وولده من سفك الدماء وإتلاف الأموال وإهلاك خيار الناس بالحجاز والعراق، وغير ذلك." انتهى من "المفهم" (7 / 254).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
"والذي يظهر... أن أولهم يزيد، كما دل عليه قول أبي هريرة: (رأس الستين وإمارة الصبيان)، فإن يزيد كان غالبا ينتزع الشيوخ من إمارة البلدان الكبار، ويوليها الأصاغر من أقاربه " انتهى. "فتح الباري" (13 / 11).
ثانيا:
أما مروان بن الحكم وإن كان مشاركا في جملة من الفتن؛ إلا أنه معدود في التابعين، ويحتمل أن تكون له صحبة، فقد قيل أنه زمن فتح مكة كان غلاما مميزا.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
"مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشيّ الأمويّ، أبو عبد الملك.
وهو ابن عم عثمان، وكاتبه في خلافته.
يقال: ولد بعد الهجرة بسنتين، وقيل: بأربع. وقال ابن شاهين: مات النّبيّ صلّى اللَّه عليه وآله وسلم وهو ابن ثمان سنين، فيكون مولده بعد الهجرة بسنتين، قال: وسمعت ابن أبي داود يقول: ولد عام أحد- يعني سنة ثلاث.
وقال ابن أبي داود: وقد كان في الفتح مميّزا، وفي حجة الوداع، ولكن لا يُدرى أسمع من النّبي صلّى اللَّه عليه وآله وسلم شيئا أم لا.
وقال ابن طاهر: ولد هو والمسور بن مخرمة بعد الهجرة بسنتين، لا خلاف في ذلك، كذا قال، وهو مردود، والخلاف ثابت، وقصة إسلام أبيه ثابتة في الفتح، لو ثبت أنّ في تلك السنة مولده لكان حينئذ مميّزا، فيكون من شرط القسم الأول، لكن لم أر من جزم بصحبته، فكأنه لم يكن حينئذ مميزا، ومن بعد الفتح أخرج أبوه إلى الطّائف وهو معه، فلم يثبت له أزيد من الرؤية." انتهى من "الإصابة" (10 / 389).
وكان له فقه ورواية وعلم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
"وروى عنه من التّابعين ابنه عبد الملك، وعليّ بن الحسين، وعروة بن الزّبير، وسعيد بن المسيّب، وأبو بكر بن عبد الرّحمن بن الحارث، وعبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة وغيرهم، وكان يعدّ في الفقهاء." انتهى من "الإصابة" (10 / 389).
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى:
"وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين. وقد كان مروان من سادات قريش وفضلائها...
وقال ابن المبارك، عن جرير بن حازم، عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر، أنه قال لمعاوية: من ترى لهذا الأمر من بعدك؟ فقال: وأما القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، الشديد في حدود الله، فمروان بن الحكم. وقد استنابه على المدينة غير مرة، يعزله ثم يعيده إليها، وأقام للناس الحج في سنين متعددة.
وقال حنبل عن الإمام أحمد قال: يقال: إنه كان عند مروان قضاء، وكان يتبع قضاء عمر بن الخطاب.
وقال ابن وهب: سمعت مالكا يقول وذكر مروان يوما، فقال: قال مروان: قرأت كتاب الله منذ أربعين سنة، ثم أصبحت فيما أنا فيه من هراقة الدماء وهذا الشأن. " انتهى، من "البداية والنهاية" (11 / 706 - 708).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
"وليس مروان أولى بالفتنة والشر من محمد بن أبي بكر، ولا هو أشهر بالعلم والدين منه. بل أخرج أهل الصحاح عدة أحاديث عن مروان، وله قول مع أهل الفتيا، واختلف في صحبته " انتهى، من "منهاج السنة" (6 / 246).
ثالثا:
وأما الحجاج بن يوسف الثقفي، فكان أميرا على العراق، واشتهر عنه التساهل في دماء الناس، وحمل عليه معنى حديث ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي ثَقِيفٍ كَذَّابٌ وَمُبِيرٌ رواه الترمذي (2220)، وقال: "يُقَالُ: الكَذَّابُ المُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَالمُبِيرُ: الحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ...
وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ،... " انتهى.
وذنوبه هذه في الدماء رغم عظمها وخطرها إلا أنه لم يثبت عنه ما يخرجه من دائرة الإسلام، على المشهور، وقد صدر منه أشياء مما يحمد لأجله كاعتنائه بكتاب الله تعالى والمشتغلين به، واهتمامه بالفتوحات ونشر الإسلام فقد فتح تحت إمرته جملة من مناطق بلاد المشرق.
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
"وكان ظلوما، جبارا، ناصبيا، خبيثا، سفاكا للدماء، وكان ذا شجاعة، وإقدام، ومكر، ودهاء، وفصاحة، وبلاغة، وتعظيم للقرآن.
قد سقت من سوء سيرته في "تاريخي الكبير"، وحصاره لابن الزبير بالكعبة، ورميه إياها بالمنجنيق، وإذلاله لأهل الحرمين، ثم ولايته على العراق والمشرق كله عشرين سنة، وحروب ابن الأشعث له، وتأخيره للصلوات إلى أن استأصله الله، فنسبه ولا نحبه، بل نبغضه في الله، فإن ذلك من أوثق عرى الإيمان.
وله حسنات مغمورة في بحر ذنوبه، وأمره إلى الله، وله توحيد في الجملة " انتهى. "سير أعلام النبلاء" (4 / 343).
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم (144424) ورقم (225828)
فالحاصل؛ أن مروان والحجاج من أهل الإسلام والتوحيد، في الجملة، وليسوا من الكفار المرتدين، على المشهور، ولا هم من الأولياء الصالحين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
"كان أهل العلم يختارون فيمن عرف بالظلم ونحوه، مع أنه مسلم له أعمال صالحة في الظاهر - كالحجاج بن يوسف وأمثاله - أنهم لا يلعنون أحدا منهم بعينه؛ بل يقولون كما قال الله تعالى: (أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)، فيلعنون من لعنه الله ورسوله عاما. كقوله صلى الله عليه وسلم: (لَعَنَ اللهُ الْخَمْرَ، وَلَعَنَ شَارِبَهَا، وَسَاقِيَهَا، وَعَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَبَائِعَهَا، وَمُبْتَاعَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ، وَآكِلَ ثَمَنِهَا).
ولا يلعنون المعين. كما ثبت في صحيح البخاري وغيره: (أن رجلا كان يدعى حمارا وكان يشرب الخمر. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلده.
فأتي به مرة. فلعنه رجل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تلعنه. فإنه يحب الله ورسوله). وذلك لأن اللعنة من باب الوعيد، والوعيد العام لا يقطع به للشخص المعين، لأحد الأسباب المذكورة: من توبة أو حسنات ماحية أو مصائب مكفرة أو شفاعة مقبولة. وغير ذلك.
وطائفة من العلماء يلعنون المعين كيزيد.
وطائفة بإزاء هؤلاء؛ يقولون بل نحبه، لما فيه من الإيمان الذي أمرنا الله أن نوالي عليه. إذ ليس كافرا.
والمختار عند الأمة: أنا لا نلعن معينا مطلقا. ولا نحب معينا مطلقا.
فإن العبد قد يكون فيه سبب هذا وسبب هذا، إذا اجتمع فيه من حب الأمرين.
إذ كان من أصول أهل السنة التي فارقوا بها الخوارج: أن الشخص الواحد تجتمع فيه حسنات وسيئات، فيثاب على حسناته، ويعاقب على سيئاته. ويحمد على حسناته ويذم على سيئاته. وأنه من وجه مرضي محبوب ومن وجه بغيض مسخوط. فلهذا كان لأهل الإحداث: هذا الحكم." انتهى من "مجموع الفتاوى" (27 / 475 - 476).
والله أعلم.