الحمد لله.
أولاُ:
الأطراف الصناعية التي يعتاض بها الإنسان عن الأعضاء الأصلية: لا تُعطى أحكام الأعضاء الأصلية في التكاليف التعبدية عند الفقهاء رحمهم الله، وذلك لأنها ليست هي الأعضاء التي توجه إليها الخطاب الشرعي.
ولذا نجد أن الفقهاء لم يعطوها حكم العضو الأصلي في حقوق الآدميين، وهي من أبواب الحقوق المضيَّقة، كما لم يعتبروا ورود التكليف عليها في الجانب التعبدي.
قال النووي رحمه الله عند حديثه عن دية الأسنان: "وتكمل دية السن بقلع كل سن أصلية تامة ....، ولو سقطت سنه فاتخذ سنا من ذهب أو حديد أو عظم طاهر، فلا دية في قلعها" انتهى من "روضة الطالبين" (9/ 276).
وقال ابن حجر الهيتمي رحمه الله في جوابه عن سؤال حول غسل العضو البديل في الوضوء والغسل من الجنابة:
"وقد ذكروا في الجنايات في السن المتخذة من ذهب أنه لا أرش فيها؛ وإن كان نفعها أكثر من نفع الصحيحة...، وهذا ناطق بأنهم لم يلحقوها بالسن الأصلية التي هي بدل عنها، وإذا لم يلحقوها بها في حقوق الآدميين، مع بنائها على المضايقة؛ فأولى أن لا يلحقوا البدل في مسألتنا بالأصلي في حقوق الله تعالى.
وعليه؛ فلا يجب غسل ما لم ينبت عليه لحم ولا جلد، من أنف النقد [يعني: من الأنف المتخذَة من النقد، وهو الذهب] ولا أنملته.
ومثله: ما لو وصل عظمه بعظم نجس؛ بل هذا أولى". انتهى من "الفتاوى الفقهية الكبرى" (1/60).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "إذا فقد الإنسان عضواً من أعضاء الوضوء، فإنه يسقط عنه فرضه إلى غير تيمم، لأنه فقد محل الفرض، فلم يجب عليه، حتى لو ركب له عضو صناعي، فإنه لا يلزمه غسله" انتهى من "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (11/ 152).
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة:" ليس عليك غسل الطرف الصناعي ولا مسحه في الوضوء؛ لأن محل الفرض في الوضوء قد زال" انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة/2" (4/88).
وبناء على ما قرره أهل العلم من عدم إعطاء العضو البديل حكم العضو الأصلي، فإنّ رسم الوشم على الطرف الصناعي لا تجري عليه أحكام الوشم على العضو الطبيعي، فليس هناك تغيير لخلق الله؛ فلا يُمنع من هذه الحيثية.
ثانياً:
هل يُمنع الوشم على الطرف الصناعي لأسباب خارجية؟
قد يكون الأمر في الشريعة غير محرم لذاته، ولكن يحرم إذا عرضت له عوارض أخرى، فمثلاً قص الشعر مباح، كيفما كان ؛ لكنه قد يحرم إذا كان في طريقته تشبه بالكفار والفساق بما اختصوا وتميزوا به، وكذا إذا كان في تشبه النساء بالرجال.
وبناء على ما سبق يقال:
إن الوشم على الطرف الصناعي – أو الرسم بتعبير أدق؛ فليس هذا وشما حقيقيا - : مباح من حيث الأصل ؛ لكنه يمنع إذا كان فيه رسم لصورة ذات روح، لما تقرر من منع تصوير ذوات الأرواح.
ومثل ذلك: إذا كان فيه تشبه بشعارات أو رسوم تميز بها الكفار أو الفساق، فيحرم من هذه الحيثية، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ) رواه أبو داود (4031)، صححه الألباني في الإرواء (1269).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:" أي: أتى ما يكون به متشابهاً لهم، وذلك بأن يفعل شيئاً من خصائصهم" انتهى من "فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام" (6/ 335).
وسواء قصد التشبه أم لم يقصد، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "متى حصل الشبه ثبت الحكم سواء كان بإرادة أم بغير إرادة. فلو قال قائل: إنه لبس ثياب الكفار لكن لم يقصد التشبه، قلنا: ولكن حصل الشبه والنية محلها القلب فننكر عليه ما أظهره من المشابهة، وأما فيما بينه وبين ربه فهذا ليس إلينا؛ لأن بعضهم تنهاه عن شيء ويقول ما قصدت التشبه...، نقول: التشبه حاصل والنية أمر خفي لا يطلع عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تشبه بقوم فهو منهم) فعلق الحكم على المشابهة" انتهى من "فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام" (6/ 337).
وقد يكره ، أو يحرم إن أوهم الناظر أنه فاعل للوشم في طرف حقيقي، أو أوهم غيرَه جواز الوشم، خاصة في حق من كان يُقتدَى به ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم: كَانَ فِي الْمَسْجِدِ، وَعِنْدَهُ أَزْوَاجُهُ، فَرُحْنَ، فَقَالَ لِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ: (لَا تَعْجَلِي حَتَّى أَنْصَرِفَ مَعَكِ). وَكَانَ بَيْتُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهَا، فَلَقِيَهُ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَنَظَرَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَجَازَا، وَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تَعَالَيَا، إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ). قَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ: (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أن يلقي في أنفسكما شيئا) البخاري (1933).
قال ابن حجر في شرح هذا الحديث: "وَفِيهِ التَّحَرُّزُ مِنَ التَّعَرُّضِ لِسُوءِ الظَّنِّ، وَالاحْتِفَاظُ مِنْ كَيَدِ الشَّيْطَان والاعتذار. قال ابن دقيق العيد : وهذا متأكد في حق العلماء ومن يقتدى به، فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلا يوجب سوء الظن بهم، وإن كان لهم فيه مخلص، لأن ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم " انتهى من "فتح الباري لابن حجر" (4/ 280).
والله أعلم.