أنا مديون بدين كبير من عدة دائنين، ولدي رأس مال بسيط جدا، أعمل به في التجارة لسداد هذا الدين كأقساط شهرية من واقع الأرباح، وأقوم بتوزيعه بالتساوي بينهم وبين مصروف أسرتي، وإيجار المنزل مع المحافظة على رأس المال، إلا إنه بعض الأحيان يصر الدائنون ويلحون طلبا بزيادة السداد؛ بحجة إن الدين قد استحق بالكامل، علما بأن رأس المال لدي قليل جدا لا يفي بجميع الدين، وسيلحقني ضرر وبأسرتي وإيجار المنزل وغيره، بسبب الإفلاس في حال تقديم رأس المال لسداد الدين. السوال: فهل طريقتي صحيحة شرعا للخروج من هذا الدين، أم يجب علي أن أدفع جميع السيولة المتوفرة، وأعلن إعساري بالدين المتبقي؟
الحمد لله.
أولا :
اعلم أن شأن الدَّيْن عظيم ، وخطره كبير ، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلا الدَّيْنَ رواه مسلم(1886).
وروى النسائي (4605) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ رضي الله عنه قَالَ : "كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ وَضَعَ رَاحَتَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ، ثُمَّ قَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ ! مَاذَا نُزِّلَ مِنَ التَّشْدِيدِ ؟ فَسَكَتْنَا وَفَزِعْنَا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ سَأَلْتُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا التَّشْدِيدُ الَّذِي نُزِّلَ ؟ فَقَالَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ! لَوْ أَنَّ رَجُلا قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ، ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ؛ مَا دَخَلَ الْجَنَّةَ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ حسنه الألباني في "صحيح النسائي" (4367) .
فالواجب عليك أن تسعى في قضاء الديون التي عليك ، ولا تقصر في ذلك ، وأن تستسمح الدائنين وتعتذر لهم عن التأخير .
ثانيا :
من حق صاحب الدين أن يطالب بدينه، وإذا كان مال المدين لا يكفي لسداد ما عليه من ديون، وطلب الدائنون من الحاكم (القاضي) أن يحجر على أموال المدين ويقسمها عليهم، حسب مقدار دين كل واحد منهم؛ وجب على الحاكم أن يجيبهم لذلك.
قال البهوتي رحمه الله في "كشاف القناع" (3/494): "( وَإِنْ كَانَ لَهُ ) أَيْ الْمَدِينِ ( مَالٌ لَا يَفِي بِدَيْنِهِ، فَسَأَلَ غُرَمَاؤُهُ كُلُّهُمْ ) الْحَاكِمَ الْحَجْرَ عَلَيْهِ، ( أَوْ ) سَأَلَ ( بَعْضُهُمْ الْحَاكِمَ الْحَجْرَ عَلَيْهِ ؛ لَزِمَهُ ) - أَيْ الْحَاكِمَ - ( إجَابَتُهُمْ ) إلَى الْحَجْرِ عَلَيْهِ ، لِمَا رَوَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَرَ عَلَى مُعَاذٍ وَبَاعَ مَالَهُ رَوَاهُ الْخَلَّالُ .
فَإِنْ لَمْ يَسْأَلْ أَحَدٌ مِنْ غُرَمَائِهِ الْحَاكِمَ الْحَجْرَ عَلَيْهِ ؛ لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِغَيْرِ طَلَبِ رَبِّ الْحَقِّ" انتهى.
وفي هذه الحالة يحجر الحاكم على أمواله ويترك له ما يحتاج إليه، كثيابه ، وأثاث بيته، ومسكنه، وآلات حرفته، لكن بشرط أن يكون ذلك بقدر حاجته بلا زيادة.
ونص الإمام أحمد على أنه إذا لم يكن صاحب حرفة ؛ فإنه يُترك له من المال ما يتجر به (رأس مال) .
قال المرداوي : "ويترك له من ماله ما تدعو إليه حاجته من مسكن. بلا نزاع . لكن إن كان واسعا يفضُل عن سكنى مثله: بِيع ، واشتُري له مسكنُ مثلِه ...
ويُترك له أيضا: آله حرفة ، فإن لم يكن صاحب حِرفة، تُرك له ما يتَّجر به . نص عليه الإمام أحمد ...
وقال في "الموجز" و "التبصرة" : ويُترك له أيضا فرسٌ يحتاج إلى ركوبها . وقال في "الروضة" : يترك له دابة يحتاجها" انتهى من "الإنصاف" (13 /311-313) .
وعلى هذا ، فإن كان الواقع كما ذكرت: فما تقوم به صحيح ، ولا يلزمك أن تعطي رأس مال تجارتك للغرماء، وتقعد عالة ليس لديك ما تنفق منه على نفسك ، ولا على أسرتك!!
واعلم أنه لا يجوز لك التوسع في المعيشة وتأخير الديون بسبب بذلك ، فإن كان المسكن الذي تسكن فيه أكثر مما تحتاج إليه، وجب عليك تركه ، والسكن في شقة أخرى بإيجار أقل ، وهكذا يقال في السيارة –إن كان لديك سيارة- ... وغير ذلك ، فتقتصر على ما تحتاج إليه فقط، بلا توسع ، حتى تؤدي ما عليك من الديون .
نسأل الله تعالى أن ييسر لك أمرك .
والله أعلم .