الحمد لله.
أولا:
أيتها الأخت الكريمة، قبل الإجابة عن سؤالك، أو رفع شكواك، ومواساتك في حالك؛ هذه دعوة لنا ولك، إلى تأمل هذه الآيات الجليلة من سورة فاطر، قال الله جل جلاله :
يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ * وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ فاطر/ .
فاعلمي ـ يا أمة : أن الله جل جلاله : هو الغني الحميد ، له الحمد في غناه ، وله الحمد في الأولى ، والآخرة ، والعبد فقير إلى ربه في كل حالاته ؛ فالغنى : وصفٌ ذاتي له جل جلاله ، لم يستفده من خلقه ، بل هو مفيدهم بكل خير ، رازقهم ومعطيهم كل نعمة وفضل ، فأنت ـ يا عبد الله ـ فقير إلى الله جل جلاله .
إن دينك ـ يا أمة الله ـ أعز عليك ، وعلى كل مؤمن بإله يعبده ، من أن يجعله رهنا : لإحسان من أحسن ، أو إساءة من أساء ، لرضا من رضي ، أو سخط من سخط ، لقبول من قبل ، وإباء من أبى .
دينك ، دينك ، لحمك ، ودمك ؛ فعضي عليه بالنواجذ ، واحذري أن يتخطفك الشيطان عنه ، وإن قُتلت ، وحُرقت ، وإن أعطوك ، أو منعوك وإن عدلوا فيك ، أو ظلموك .
دينك ، ليس محلا لهذه الخصومات ، دينك بينك وبين ربك
وانظري للأهمية : جواب السؤال رقم (229725).
ثانيا :
ما قام به والدك من الأذى والضرر : منكر عظيم وظلم بين، لا تبيحه الشريعة ولا ترضى به، وليس هذا من التأديب المسموح به، بل هو جناية، يُعزر عليها تعزيرا بليغا.
وفي صحيح البخاري(525) ومسلم (144) عن حُذَيْفَةَ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الفِتْنَةِ، قُلْتُ أَنَا كَمَا قَالَهُ: قَالَ: إِنَّكَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهَا لَجَرِيءٌ، قُلْتُ: ( فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ، تُكَفِّرُهَا الصَّلاَةُ وَالصَّوْمُ وَالصَّدَقَةُ، وَالأَمْرُ وَالنَّهْيُ ) .
قال القاضي أبو بكر ابن العربي، رحمه الله: " ( فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ ) : يريد : ما يدخل عليه منهم من المكروه المتعلق به لأجلهم، من تقصير في حقوقهم ، أو إذاية تدخل عليهم من جهته .. " انتهى، من "عارضة الأحوذي" (9/115).
وقال نجم الدين الطوفي، رحمه الله: " وفتنة الرجل في أهله وماله وولده، نحوُ أذاه لهم بما يوجب إثما: تكفرها الطاعات، ما لم تكن كبيرة .. " انتهى، من "مختصر الترمذي" (2/390).
فتبين بذلك: أن أذى الرجل لأهله وأولاده، بغير حق، هو من الذنوب التي يحتاج إلى كفارة فيها . وهذه الكفارات المذكورة، إنما هي فيما كان دون الكبائر، فكيف إذا كانت إذايته لهم قد بلغت حد الكبيرة، والجناية على النفس؟!! ثم ينسب إلى شرع الله؛ أنه لا مؤاخذة عليه، ولا تثريب عليه فيما فعل بهم ؛ سبحانك هذا بهتان عظيم!!
والعجب مما ذكرت عن هذا الشيخ الجاهل، فإن ما قاله لا أصل له.
وإنما اختلف الفقهاء في القصاص: هل يقتص من الوالد في جنايته على ولده أم لا؟
لكن هذا لا يعني أن جنايته معفو عنها ، وأنه لا إثم عليه ، فيما بينه وبين الله ، أو أنه لا يُعزر، ولا يعاقب في الدنيا ، لأجل ذلك!
والراجح في مسألة القصاص : أن الوالد إذا قتل ولده عمدًا قُتل به، وهو قول ابن نافع وابن الحكم وابن المنذر . وينظر : " المغني " (8/ 277).
وذهب مالك رحمه الله إلى أنه إن قتله حذفا بالسيف ونحوه : لم يقتل به .
وإن ذبحه، أو قتله قتلا لا يُشك في أنه قصد إلى قتله دون تأديبه : اقتُص منه .
والأصل في ذلك: عموم الأدلة في القصاص، مع ضعف الحديث الذي اعتمد عليه من قال بعدم القصاص.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " والدليل الحديث المشهور: لا يقتل والد بولده ، هذا من الأثر .
ومن النظر : أن الوالد سبب في إيجاد الولد، فلا ينبغي أن يكون الولد سببا في إعدامه.
ولننظر في هذه الأدلة ، أما الحديث فقد ضعفه كثير من أهل العلم ، فلا يقاوم العمومات الدالة على وجوب القصاص .
وأما تعليلهم النظري : فالجواب عنه أن الابن ليس هو السبب في إعدام أبيه، بل الوالد هو السبب في إعدام نفسه بفعله جناية القتل.
والصواب: أنه يقتل بالولد، والإمام مالك رحمه الله اختار ذلك، إلا أنه قيده بما إذا كان عمدا، لا شبهة فيه إطلاقا ، بأن جاء بالولد وأضجعه وأخذ سكينا وذبحه ، فهذا أمر لا يتطرق إليه الاحتمال .
بخلاف ما إذا كان الأمر يتطرق إليه الاحتمال ، فإنه لا يقتص منه ، قال: لأن قتل الوالد ولده أمر بعيد ، فلا يمكن أن نقتص منه إلا إذا علمنا علم اليقين أنه أراد قتله .
والراجح في هذه المسألة: أن الوالد يقتل بالولد، والأدلة التي استدلوا بها ضعيفة لا تقاوم النصوص الصحيحة الصريحة الدالة على العموم .
ثم إنه لو تهاون الناس بهذا لكان كل واحد يحمل على ولده ، لا سيما إذا كان والدا بعيدا، كالجد من الأم ، أو ما أشبه ذلك ويقتله ، ما دام أنه لن يقتص منه " انتهى من "الشرح الممتع" (14/ 43).
وأما حديث: (وأنت ومالك لأبيك) فهو – بتقدير صحته - دال على جواز الأخذ من مال الولد، ولا يدل على جواز العدوان عليه، ولا على نفي القصاص.
ثم الأخذ من ماله مقيد بالحاجة ، وله شروط، وليس مطلقا، وينظر: جواب السؤال رقم (9594).
والحاصل : أن الأب لا يجوز له شرعا أن يفعل ما فعل والدك، ولا أن يضرب ابنه في وجهه، ولا أن يكسر له طرفا، أو يتلف له عضوا، ويأثم بذلك، ويستحق التعزير، ويقتص منه على الراجح عند بعض أهل العلم إذا ثبت أنه تعمد ذلك.
وللابن أن يشتكي أباه في ذلك، ولو كان الأمر سيؤدي إلى سجن الأب، ولا يعد هذا عقوقا.
وقد تكونين لم تفهمي كلام الشيخ جيدا ، فقد يكون رَغَّبَك في الصفح عن والدك ، وأنه ينبغي لك أن لا تسيئي إليه حتى لو أساء هو إليك .. ونحو ذلك ، فأخطأتِ في الفهم ، وفهمتِ ما ذكرته في السؤال .
ثالثا:
وصيتنا لك بالصبر واحتساب الأجر، فإن المؤمن الصابر لا يزال به البلاء حتى يلقى الله وما عليه خطيئة، واحذري من التهاون في الصلاة، فإن الصلاة آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين، والمتهاون فيها توعده الله بالغي وهو واد في جهنم، كما قال تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً) مريم/59
قال ابن مسعود عن الغي: واد في جهنم، بعيد القعر، خبيث الطعم.
فاتقي الله تعالى، وثقي بشرع الله ودينه، ولا تكوني ممن يعبد الله على حرف، ولا تلتفتي لكلام الجهال وأذاهم.
نسأل الله أن يفرغ عليك صبرا، وأن يزيدك إيمانا وثباتا
والله أعلم.