حكم حلف الرجل على اجتناب زوجته لأسباب تافهة!

22-06-2023

السؤال 393987

حكم من يحلف على اجتناب زوجته أكثر من أربعة أشهر أو أقل لأتفه سبب، كلما حدثت مشكلة تافهة بينهما، أو كلما أخطأت مهما كان الخطأ صغيرا؟ ويحلف بدون سبب أصلا للضرر؟ هل يأثم بيمينه؟ وهل حلف النبي عليه الصلاة والسلام على زوجاته كان لسبب وجيه؟

الجواب

الحمد لله.

أولا :

لا يجوز للزوج أن يحلف على ترك معاشرة زوجته أكثر من أربعة أشهر ، لأن هذا حلف على ترك واجب ، وليس هو من العشرة بالمعروف .

قال المرداوي رحمه الله في "الإنصاف" (23/137):

"الإيلاءُ مُحَرَّمٌ في ظاهِرِ كلامِ الأصحابِ، لأنَّه يمينٌ على تَرْكِ واجِبٍ" انتهى .

ويجوز أن يحلف الرجل على امرأته، على أقل من هذه المدة، إذا كان ذلك لمصلحة معتبرة، كتأديب الزوجة . فإنَّ هجْرَ الزوجِ لزوجته جائز إذا كان لتأديبها ، ولم ينفع معها الوعظ .

قال الله تعالى: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا النساء/34.

والحلف هو تأكيد لهذا الهجر .

لكن لا يجوز ذلك إلا إذا كان لمصلحة ، أما لقصد الإضرار، فلا يحل له ذلك.

ومثل ذلك: لو كان أكثر من أربعة أشهر فهو حرام.

وقد سئل الشيخ ابن باز رحمه الله :

هل يجوز للمسلم الإيلاء من زوجته؟

فأجاب :

"يجوز إذا رأى المصلحة في ذلك، لكن لا يجعله أربعة أشهر، لا يزيد على أربعة أشهر كما قال تعالى: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) [البقرة:226]، أربعة أشهر فأقل: يجوز إذا رأى المصلحة في ذلك" انتهى من موقع الشيخ.

والإيلاء الذي يتكلم الفقهاء عن حكمه هو الحلف على ترك وطء الزوجة أكثر من أربعة أشهر ، لا أقل من هذا .

وقد حدد الله تعالى للمولي أربعة أشهر ، فإذا مضت طلب منه الحاكم أن يرجع عن يمينه ويكفر كفارة يمين ، أو يطلق .

قال الله تعالى : لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ  البقرة/226-227.

قال السعدي رحمه الله في تفسيره (ص101):

"وهذا من الأيمان الخاصة بالزوجة، في أمر خاص، وهو حلف الزوج على ترك وطء زوجته مطلقا، أو مقيدا، بأقل من أربعة أشهر أو أكثر.

فمن آلى من زوجته خاصة، فإن كان لدون أربعة أشهر، فهذا مثل سائر الأيمان، إن حنث كفر، وإن أتم يمينه، فلا شيء عليه، وليس لزوجته عليه سبيل، لأنه ملَّكه أربعة أشهر.

وإن كان أبدا، أو مدة تزيد على أربعة أشهر، ضُربت له مدة أربعة أشهر من يمينه، إذا طلبت زوجته ذلك، لأنه حق لها، فإذا تمت، أُمر بالفيئة وهو الوطء، فإن وطئ، فلا شيء عليه إلا كفارة اليمين، وإن امتنع، أجبر على الطلاق، فإن امتنع، طلق عليه الحاكم.

ولكن الفيئة والرجوع إلى زوجته، أحب إلى الله تعالى، ولهذا قال: فَإِنْ فَاءُوا أي: رجعوا إلى ما حلفوا على تركه، وهو الوطء. فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يغفر لهم ما حصل منهم من الحلف، بسبب رجوعهم. رَحِيمٌ حيث جعل لأيمانهم كفارة وتحلة، ولم يجعلها لازمة لهم غير قابلة للانفكاك، ورحيم بهم أيضا، حيث فاءوا إلى زوجاتهم، وحنوا عليهن ورحموهن.

وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ أي: امتنعوا من الفيئة، فكان ذلك دليلا على رغبتهم عنهن، وعدم إرادتهم لأزواجهم، وهذا لا يكون إلا عزما على الطلاق، فإن حصل هذا الحق الواجب منه مباشرة، وإلا أجبره الحاكم عليه، أو قام به.

فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فيه وعيد وتهديد، لمن يحلف هذا الحلف، ويقصد بذلك المضارة والمشاقة" انتهى.

ثالثا:

النبي صلى الله عليه وسلم هو أحكم البشر وأعلمهم وأحلمهم ، فلا يتصور أن يفعل النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ويقره عليه الوحي ، إلا وهو الحكمة والأحسن .

فمن ذلك : حلف النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتزل نساءه شهرا .

روى البخاري عن أنس (378)، وأم سلمة (1910) رضي الله عنهما: " أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم آلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا".

 وأقره الوحي على ذلك، ولم ينكره ، فدل ذلك على أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم هو الحكمة.

وقد ذكر العلماء سبب اعتزال النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه ، فقال بعضهم : إنه بسبب إفشاء حفصة سر النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة . وقال بعضهم : لأنهن طلبن منه زيادة النفقة . وقد جاءت الروايات بهذا وهذا ، فلما أغضبنه، أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤدبهن، فاعتزلهن شهرا .

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في "فتح الباري" (9/200):

"قَوْلُهُ : (فَاعْتَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ الَّذِي أَفْشَتْهُ حَفْصَةُ إِلَى عَائِشَةَ)، كَذَا فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ لَمْ يُفَسِّرِ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ الَّذِي أَفْشَتْهُ حَفْصَةُ ، وَفِيهِ أَيْضًا : (وَكَانَ قَالَ : مَا أَنَا بِدَاخِلٍ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا؛ مِنْ شِدَّةِ مَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ حِينَ عَاتَبَهُ اللَّهُ)، وَهَذَا أَيْضًا مُبْهَمٌ ، وَلَمْ أَرَهُ مُفَسَّرًا...

وَالْمرَاد بالمعاتبة قَوْله تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ... الْآيَاتِ).

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الَّذِي حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ وَعُوتِبَ عَلَى تَحْرِيمِهِ ، كَمَا اخْتُلِفَ فِي سَبَبِ حَلِفِهِ عَلَى أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَى نِسَائِهِ عَلَى أَقْوَالٍ:

فَالَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ الْعَسَلُ ... وَذَكَرْتُ فِي التَّفْسِيرِ قَوْلًا آخَرَ أَنَّهُ فِي تَحْرِيمِ جَارِيَتِهِ مَارِيَةَ، وَذَكَرْتُ هُنَاكَ كَثِيرًا مِنْ طُرُقِهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ عَائِشَة عِنْد بن مَرْدَوَيْهِ مَا يَجْمَعُ الْقَوْلَيْنِ...

وَجَاءَ فِي سَبَبِ غَضَبِهِ مِنْهُنَّ، وَحَلِفِهِ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا: قصَّة أُخْرَى. فَأخْرج ابن سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : (أُهْدِيَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّةٌ فَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ نصِيبهَا ، فَلم ترض زَيْنَب بنت جحش بنصيبها ، فَزَادَهَا مَرَّةً أُخْرَى فَلَمْ تَرْضَ ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ : لَقَدْ أَقْمَأَتْ وَجْهَكَ ، تَرُدُّ عَلَيْكَ الْهَدِيَّةَ ، فَقَالَ لَأَنْتُنَّ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَنْ تُقْمِئْنَنِي ، لَا أَدْخُلُ عَلَيْكُنَّ شَهْرًا ... الْحَدِيثَ).

وَمِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ نَحْوُهُ وَفِيهِ : (ذَبَحَ ذِبْحًا، فَقَسَمَهُ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى زَيْنَبَ بِنَصِيبِهَا، فَرَدَّتْهُ ، فَقَالَ : زِيدُوهَا ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ تَرُدُّهُ؛ فَذَكَرَ نَحْوَهُ ) .

وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ : (جَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَالنَّاسُ جُلُوسٌ بِبَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُؤْذَنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ ، فَأُذِنَ لِأَبِي بَكْرٍ فَدَخَلَ ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ ، فَوَجَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا وَحَوْلَهُ نِسَاؤُهُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: هُنَّ حَوْلِي كَمَا تَرَى يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَةَ ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عَائِشَةَ ، وَقَامَ عُمَرُ إِلَى حَفْصَةَ، ثُمَّ اعْتَزَلَهُنَّ شَهْرًا، فَذَكَرَ نُزُولَ آيَةِ التَّخْيِيرِ).

وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَانَ سَبَبًا لِاعْتِزَالِهِنَّ، وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِمَكَارِمِ أَخْلَاقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَسَعَةِ صَدْرِهِ، وَكَثْرَةِ صَفْحِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ حَتَّى تَكَرَّرَ مُوجِبُهُ مِنْهُنَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم ورضى عَنْهُن...

وَالرَّاجِحُ مِنَ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا: قِصَّةُ مَارِيَةَ لِاخْتِصَاصِ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ بِهَا، بِخِلَافِ الْعَسَلِ فَإِنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُنَّ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْأَسْبَابُ جَمِيعُهَا اجْتَمَعَتْ فَأُشِيرَ إِلَى أَهَمِّهَا، وَيُؤَيِّدُهُ شُمُولُ الْحَلِفِ لِلْجَمِيعِ ، وَلَوْ كَانَ مَثَلًا فِي قِصَّةِ مَارِيَةَ فَقَطْ لَاخْتَصَّ بِحَفْصَةَ وَعَائِشَةَ" انتهى.

والله أعلم.

عرض في موقع إسلام سؤال وجواب