هل الإنجيل المنزل على عيسى عليه السلام في قوله تعالى (وآتيناه الإنجيل) هو كتاب مادي ذو أوراق؟ حيث تناقشت مع صاحبي، فقال لي: لا يلزم من كون عيسى عليه السلام أنزل الله عليه الإنجيل وآتاه إياه أن يكون الكتاب كتابًا ماديًا، واستدل بذلك من القرآن، فالقرآن يقول عن نفسه: (هذا كتاب أنزلناه)، ويقول (ولقد آتيناك سبعًا من المثاني والقرآن)، والقرآن لم ينزل كتابًا ماديًا كما هو معلوم، إنما كُتب بين جلدتين بعد ذلك، وقال أيضًا: حتى لو قال القرآن عن الإنجيل إنه كتاب لا يلزم منه أنه نزل كتابًا ماديًا على عيسى عليه السلام، والدليل على هذا نفس الآية الأولى، فسمت القرآن كتابًا، لكنه لم يكن ماديًا بعد. فهل ما قاله صحيح؟ أعني لا يلزم من كون الإنجيل كتابًا منزلًا أنه كتاب مادي فحاله حال القرآن في هذا الأمر؟ وهل أصلًا فكرة أن إنجيل عيسى عليه السلام لا بد أنه جاء بكتاب مادي خاطئة، والآيات تحتمل المعنيين: الكتاب الشفهي، والكتاب المادي؟
الحمد لله.
أولًا:
الإنجيل هو أحد الكتب التي أنزلها الله تعالى، كما قال سبحانه: (الم * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ)( آل عمران/1-4.
وهو كتاب عيسى عليه السلام، كما قال سبحانه: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) آل عمران/48، وقال: (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)المائدة/46.
وقال: (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)الحديد/27.
وقد بينا - سابقًا - أنَّ التوراة والإنجيل والزبور: هي من كلام الله على الحقيقة، وأنَّ الأناجيل الموجودة اليوم كتبت بعد عيسى عليه السلام وقع فيها تحريف كثير.
انظر الأجوبة: (197537)، (47516)، (98280).
ثانيًا:
اختلف العلماء هل نزلت الكتب السابقة جملة واحدة، أم نزلت منجمة، وقد ذكر هذه المسألة الإمام السيوطي في كتابه "الإتقان في علوم القرآن"، قال: ".. ما تقدم في كلام هؤلاء من أن سائر الكتب أنزلت جملة هو مشهور في كلام العلماء وعلى ألسنتهم، حتى كاد يكون إجماعًا، وقد رأيت بعض فضلاء العصر أنكر ذلك، وقال إنه لا دليل عليه بل الصواب أنها نزلت مفرقة كالقرآن.
وأقول: الصواب الأول" انتهى.
ثم أطال في ذكر الأدلة، ومناقشتها، فانظره في "الإتقان" (1/ 152-156).
وهنا تنبيه مهم، ذكره الشيخ د. عبدالرحمن الشهري، وهو: " ليُعلم أنه لا يلزم لإثبات كمال القرآن والشريعة الإسلامية التقليل من شأن الشرائع السابقة، كالقول بأن نزول الكتب السماوية السابقة جُملةً واحدةً من مظاهر نقص تلك الشرائع، بل الاحتمالُ لا زال واردًا أن الكتب السماويةَ السابقة للقرآن نزلت مفرقة كذلك، لتلبية حاجات العباد، غير أن الإسلام جاء مهيمنًا على تلك الأديان، وجاء القرآن مهيمنًا على تلك الكتب، وكلها من عند الله، انتهى.
ثالثًا:
لم يأت في شريعتنا شيء في بيان هل كان هذا الإنجيل مكتوبًا ومجموعًا جميعه في عهد عيسى عليه السلام، ومن الذي كتبه، ومن الذي حفظه ونشره، أم كان المسيح يعلمه الناس مشافهة، ثم يتناقله الحواريون ومن آمن به؟ أم كُتب بعضُه وتُرك بعض آخر؟ فهذه أسئلة قد لا نستطيع أن نجزم فيها بجواب اليوم، بل إن بعض الباحثين ينفي أن يكون الإنجيل الحقيقي مدونًا على هيئة كتاب، وإنما كان أقوالًا متناقلة.
يقول العلامة الطاهر ابن عاشور في "التحرير والتنوير" (3/26) في مطلع تفسير آل عمران: "وأما الإنجيل: فاسم للوحي الذي أوحي به إلى عيسى عليه السلام، فجمعه أصحابه" انتهى.
والنصارى كذلك لا يؤمنون أن الكتب التي بأيديهم، والتي جمعت فيما يعرف بـ"العهد الجديد"، قد كتب أيا منها المسيح، أو أحد تلامذته في عهده، ثم فُقِدَ بعد ذلك، قال "شيخ الإسلام ابن تيمية": "وأما الإنجيل الذي بأيديهم: فهم معترفون بأنه لم يكتبه المسيح عليه السلام، ولا أملاه على من كتبه، وإنما أملوه بعد رفع المسيح" انتهى من "الجواب الصحيح" (1/491).
وهذا فرق ظاهر بين الوحي الذي أنزل على موسى، والوحي الذي أنزل على عيسى، فقد جاء في القرآن الكريم ما يدل على كتابة الأول في قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ) الأعراف/145.
وإن كان يبدو من كلام بعض علماء المسلمين أن الإنجيل الحقيقي كان مدونًا ومكتوبًا في عهد المسيح عليه السلام؛ فالذي يعنينا في هذا السياق: أنَّ الأناجيل الموجودة اليوم، ليست هي الإنجيل الحقيقي الذي أنزله الله على نبيه عيسى ابن مريم عليه السلام؛ وإن كان قد بقي فيها من الحق، والوحي الصادق ما بقي، لكنه اختلط بما حرفوه ووضعوه، بحيث لم يعد ممكنا لنا أن نميز بين ما هو وحي من عند الله، وما هو من كلام البشر ووضعهم.
وقد فصلنا ذلك في الجواب رقم: (85280).
والله أعلم.