لماذا يجب أن أمر باختبار في الدنيا؟ لماذا لم يكن لي اختيار أن أكون حبة رمل لا تعقل، ولا تشعر، بدلا من المرور باختبار الدنيا الصعب، أنا لا أهتم بنعيم الجنة، لولا خوفي من جهنم لارتبكت معاصي، فلماذا أخضع لاختبار الدنيا رغم عدم اهتمامي بالجنة؟
الحمد لله.
أولًا:
للحياة مشقتها، ولاختبارات الحياة ألمها، كما أن خوف الإنسان من عدم التوفيق في اجتياز اختبار الحياة، يجعل تلك المشاعر المطوية في سؤالك تتملك المرء وتقض مضجعه، ونحن نفهم هذا ونتعاطف معه.
ثانيًا:
يقول المولى تبارك وتعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ.
قال ابن كثير: "يخبر تعالى أنه المنفرد بالخلق والاختيار، وأنه ليس له في ذلك منازع ولا معقب، فقال: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ أي: ما يشاء؛ فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فالأمور كلها خيرها وشرها بيده، ومرجعها إليه" انتهى، من "تفسير القرآن العظيم" (6/251).
فسبب وجوب مرورك باختبار الدنيا: هو أننا جميعًا ملك لله، يتصرف فينا كيف يشاء، فإذا أوجب علينا المرور بهذا الاختبار فقد ثبت هذا الوجوب في حقنا وليس لنا إلا أن نقول: سمعنا وأطعنا.
وقد شاء الله جل جلاله: أن تكون الحياة الدنيا على تلك الحال؛ اختبارا للعباد، وامتحانا لهم، هل يطيعون ربهم، جل جلاله، فيفوزون بجنته، ورضوانه؟ أم يعصونه، فيبوؤون بغضبه، ونيرانه؟
وليس من حقك أن تعترض على شيء من ذلك؛ لأنك كنت عدما؛ كنت لا شيء؛ فجعلك الله تعالى شيئا، وخلقك خلقا؛ على ذلك الشرط الذي شرطه عليك، شئت أم أبيت: أن تكون عبدا لله، مختبرا في تلك الدار. وأعطاك القدرة على معرفة الخير من الشر، واختيار الصواب أو الخطأ، والهدى أو الضلال.
قال الله تعالى: ( هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا * إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا * إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ) الإنسان/1-5، ثم فصلت الآيات بعدها في ذكر جزاء الأبرار.
وقال تعالى: ( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ) الملك/1-2
والآيات في هذا المعنى كثيرة، معلومة.
ثالثًا:
التكليف الإلهي هو أعظم ميادين بروز العظمة الإنسانية، الإنسان مخلوق عظيم القدر، خلقه الله وكرمه، وسخر له أنواعًا شتى من المخلوقات؛ ليحقق العبودية لله.
الحياة باختبارها تُخرج منا أحسن نسخة من نفوسنا، والإنسان إذا استمد قوته من الله، ووصل حبله به، وأدام المجاهدة والسعي للإصلاح؛ كان مخلوقاً عظيمًا، وكائنًا من أجل مخلوقات الله وأكثرها دلالة على عظمة الخالق، فيباهي الله بنا ملائكته؛ أن هذا الإنسان كان أمامه الشر وملذاته والخير وعقباته، فاختار الخير تعبيرًا منه عن محبتي ورغبة في إرضائي، وهذا هو الذي يعطي الحياة الإنساني قيمتها ويعطي اختبارها معناه.
عظمة الإنسان حقاً في استطاعته أن يختار الحق، وإن كان شاقاً.
عظمته في قمعه لهواه.
عظمته في قدرته على النهوض من وهدة السقوط إذا أطاع الهوى، فلا تكاد تراه عاصياً، حتى تراه قد تاب .. وخر ساجداً وأناب.
ويكفي الحياة واختبارها قيمة: أنها هي ميدان بروز هذه العظمة.
وإذا تحرك في نفسك هذا الخاطر الذي يقول لك: لا أريد هذه العظمة، فترنم له بقول الشاعر:
قد رشَّحوك لأمرٍ؛ إنْ فطِنتَ لهُ * فاربأْ بنفسكَ أن ترعى مع الهَمَلِ
أرادك الله هنا والآن، ولهذه الإرادة الإلهية قيمة كبرى، وتحتها معنى عظيم، فافرح وقل: الحمد لله الذي انتخبني من بين مخلوقاته، لأوجد في هذه الساحة، ولم يتركني ذرة رملة مهملة في الصحراء تدوس عليها الدواب.
ستتحرك الرغبة في نعيم الجنة فيك حتما؛ ولكن إلى أن تتحرك، اجعل ما يحركك هو أنك تحب الله، وتريد أن يرى الله منك ما يحب، تريد أن يرى الله منك أحسن نسخة منك، وأن ينادي في أهل السماء إني أحب فلانًا فأحبوه.
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم: (45529)، ورقم: (271769).
وينظر أيضا للفائدة كتاب: "لماذا يطلب الله من البشر عبادته" للدكتور سامي عامري، وفقه الله.
والله أعلم