الحمد لله.
أولا:
يقسّم أهل العلم الأخبار بالنظر إلى تعدد أسانيدها إلى خبر متواتر وآحاد.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى:
" الخبر: هو ما يصح أن يدخله الصدق أو الكذب، وينقسم قسمين: خبر تواتر، وخبر آحاد.
فأما خبر التواتر: فهو ما يخبر به القوم الذين يبلغ عددهم حدا يُعلم عند مشاهديهم بمستقر العادة أن اتفاق الكذب منهم محال، وأن التواطؤ منهم في مقدار الوقت الذي انتشر الخبر عنهم فيه متعذر، وأن ما أخبروا عنه لا يجوز دخول اللبس والشبهة في مثله ، وأن أسباب القهر والغلبة والأمور الداعية إلى الكذب منتفية عنهم، فمتى تواتر الخبر عن قوم هذه سبيلهم، قطع على صدقه، وأوجب وقوع العلم ضرورة.
وأما خبر الآحاد: فهو ما قصر عن صفة التواتر ..." انتهى من "الكفاية" (1/88).
وليس هناك عدد معيّن يحصل به التفريق بينهما.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" والصحيح الذي عليه الجمهور: أن التواتر ليس له عدد محصور " انتهى من "مجموع الفتاوى" (18/50).
ولمزيد الفائدة حول هذا التقسيم طالع جواب السؤال رقم: (197554).
ثانيا:
خبر الواحد قد يحصل له التواتر في بعض طبقات السند وقد لا يحصل.
ومن أمثلة ذلك حديث: ( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ) فهو حديث تفرد به راو واحد في أغلب طبقات السند، وحصل التواتر في بعضها فقط.
فروى البخاري (1)، قال: حَدَّثَنَا الحُمَيْدِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ.
ومسلم (1907)، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ.
كلاهما: عن يَحْيَى بْن سَعِيدٍ الأَنْصَارِيّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى المِنْبَرِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ).
قال الإمام مسلم عقب الحديث:
" حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، ح وحَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ ابْنُ زَيْدٍ، ح وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ يَعْنِي الثَّقَفِيَّ، ح وحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ، ح وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ يَعْنِي ابْنَ غِيَاثٍ، وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، ح وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، ح وحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، كُلُّهُمْ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، بِإِسْنَادِ مَالِكٍ وَمَعْنَى حَدِيثِهِ " انتهى.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" وقال أبو جعفر الطبري: قد يكون هذا الحديث على طريقة بعض الناس مردودا لكونه فردا؛ لأنه لا يروى عن عمر إلا من رواية علقمة، ولا عن علقمة إلا من رواية محمد بن إبراهيم، ولا عن محمد بن إبراهيم إلا من رواية يحيى بن سعيد.
وهو كما قال؛ فإنه إنما اشتهر عن يحيى بن سعيد، وتفرد به من فوقه. وبذلك جزم الترمذي والنسائي والبزار وابن السكن وحمزة بن محمد الكناني.
وأطلق الخطابي نفي الخلاف بين أهل الحديث في أنه لا يعرف إلا بهذا الإسناد، وهو كما قال، لكن بقيدين: أحدهما الصحة، لأنه ورد من طرق معلولة ذكرها الدارقطني وأبو القاسم ابن منده وغيرهما، ثانيهما السياق، لأنه ورد في معناه عدة أحاديث صحت في مطلق النية، كحديث عائشة وأم سلمة عند مسلم: ( يبعثون على نياتهم )، وحديث ابن عباس: ( ولكن جهاد ونية ) وحديث أبي موسى: ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) متفق عليهما... إلى غير ذلك مما يتعسر حصره.
وعرف بهذا التقرير غلط من زعم أن حديث عمر متواتر؛ إلا إن حمل على التواتر المعنوي، فيحتمل.
نعم قد تواتر عن يحيى بن سعيد: فحكى محمد بن علي بن سعيد النقاش الحافظ أنه رواه عن يحيى مائتان وخمسون نفسا، وسرد أسماءهم أبو القاسم بن منده فجاوز الثلثمائة... " انتهى من "فتح الباري" (1/11).
ومن أمثلة الحديث الذي تعددت طرقه بعد الصحابي تعددا متباينا من طبقة إلى أخرى.
ما رواه البخاري (877)، ومسلم (844) عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ الجُمُعَةَ، فَلْيَغْتَسِلْ).
فقد روى هذا الحديث غير واحد عن ابن عمر كسالم وعبد الله بن عبد الله بن عمر وعبد الله بن دينار وغيرهم.
وقد رواه عن نافع جمع كثير جدا.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" ورواية نافع عن بن عمر لهذا الحديث مشهورة جدا، فقد اعتنى بتخريج طرقه أبو عوانة في "صحيحه"، فساقه من طريق سبعين نفسا، رووه عن نافع، وقد تتبعت ما فاته، وجمعت ما وقع لي من طرقه في جزء مفرد لغرض اقتضى ذلك، فبلغت أسماء من رواه عن نافع مائة وعشرين نفسا " انتهى من "فتح الباري" (2/357).
ثالثا:
ينبغي التنبه إلى أن العلم بصحة الحديث والقطع بحجيته ليس من شرطه تعدد طرقه وأسانيده، بل قد يقطع بصحة الحديث ولو تفرّد به بعض رواته.
ومن ذلك أنّ أغلب أحاديث الصحيحين مقطوع بصحتها، بغض النظر عن مدى تعدد طرقها.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" وأهل الحديث متفقون على أحاديث الصحيحين، وإن تنازعوا في أحاديث يسيرة منها جدا، وهم متفقون على لفظها ومعناها، كما اتفق المسلمون على لفظ القرآن ومعناه " انتهى من "الصواعق المرسلة" (2/655).
وقد يقطع بصحة الحديث إذا جرى عليه العمل، ونحو هذا من القرائن المختلفة، والتي تختلف معرفتها من شخص إلى آخر بحسب سعة علمه وفهمه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" والعلم الحاصل بخبر من الأخبار يحصل في القلب ضرورة، كما يحصل الشبع عقيب الأكل والري عند الشرب، وليس لما يُشبِع كلَّ واحد ويرويه قدر معين؛ بل قد يكون الشبع لكثرة الطعام، وقد يكون لجودته كاللحم، وقد يكون لاستغناء الآكل بقليله؛ وقد يكون لاشتغال نفسه بفرح أو غضب؛ أو حزن ونحو ذلك.
كذلك العلم الحاصل عقيب الخبر تارة يكون لكثرة المخبرين، وإذا كثروا فقد يفيد خبرهم العلم وإن كانوا كفارا. وتارة يكون لدينهم وضبطهم. فرب رجلين أو ثلاثة يحصل من العلم بخبرهم ما لا يحصل بعشرة وعشرين لا يوثق بدينهم وضبطهم، وتارة قد يحصل العلم بكون كل من المخبرين أخبر بمثل ما أخبر به الآخر، مع العلم بأنهما لم يتواطآ، وأنه يمتنع في العادة الاتفاق في مثل ذلك، مثل من يروي حديثا طويلا فيه فصول، ويرويه آخر لم يلقه. وتارة يحصل العلم بالخبر لمن عنده الفطنة والذكاء، والعلم بأحوال المخبرين وبما أخبروا به ما ليس لمن له مثل ذلك. وتارة يحصل العلم بالخبر لكونه روي بحضرة جماعة كثيرة شاركوا المخبر في العلم ولم يكذبه أحد منهم؛ فإن الجماعة الكثيرة قد يمتنع تواطؤهم على الكتمان كما يمتنع تواطؤهم على الكذب.
وإذا عرف أن العلم بأخبار المخبرين له أسباب غير مجرد العدد؛ علم أن من قيد العلم بعدد معين، وسوى بين جميع الأخبار في ذلك، فقد غلط غلطا عظيما.
ولهذا كان التواتر ينقسم إلى: عام؛ وخاص. فأهل العلم بالحديث والفقه قد تواتر عندهم من السنة ما لم يتواتر عند العامة، كسجود السهو ووجوب الشفعة وحمل العاقلة العقل ورجم الزاني المحصن؛ وأحاديث الرؤية وعذاب القبر؛ والحوض والشفاعة؛ وأمثال ذلك.
وإذا كان الخبر قد تواتر عند قوم دون قوم، وقد يحصل العلم بصدقه لقوم دون قوم فمن حصل له العلم به وجب عليه التصديق به، والعمل بمقتضاه كما يجب ذلك في نظائره. ومن لم يحصل له العلم بذلك فعليه أن يسلم ذلك لأهل الإجماع الذين أجمعوا على صحته. كما على الناس أن يسلموا الأحكام المجمع عليها إلى من أجمع عليها من أهل العلم؛ فإن الله عصم هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة وإنما يكون إجماعها بأن يسلم غير العالم للعالم؛ إذ غير العالم لا يكون له قول وإنما القول للعالم، فكما أن من لا يعرف أدلة الأحكام لا يعتد بقوله، فمن لا يعرف طرق العلم بصحة الحديث لا يعتد بقوله؛ بل على كل من ليس بعالم أن يتبع إجماع أهل العلم. " انتهى من "مجموع الفتاوى" (18 / 50 – 51).
كما أن تعدد الطرق لا يلزم منه صحة الخبر.
قال ابن الصلاح رحمه الله تعالى:
" لعل الباحث الفَهِم يقول: إنا نجد أحاديث محكوما بضعفها، مع كونها قد رويت بأسانيد كثيرة من وجوه عديدة، مثل حديث: (الأُذُنانِ مِنَ الرَّأسِ) ونحوه، فهلا جعلتم ذلك وأمثاله من نوع الحسن؛ لأن بعض ذلك عضد بعضا، كما قلتم في نوع الحسن على ما سبق آنفا؟
وجواب ذلك: أنه ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه، بل ذلك يتفاوت: فمنه ضعف يزيله ذلك، بأن يكون ضعفه ناشئا من ضعف حفظ راويه، مع كونه من أهل الصدق والديانة. فإذا رأينا ما رواه قد جاء من وجه آخر، عرفنا أنه مما قد حفظه، ولم يختل فيه ضبطه له. وكذلك إذا كان ضعفه من حيث الإرسال، زال بنحو ذلك، كما في المرسل الذي يرسله إمام حافظ، إذ فيه ضعف قليل يزول بروايته من وجه آخر.
ومن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك، لقوة الضعف، وتقاعد هذا الجابر عن جبره ومقاومته، وذلك كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي متهما بالكذب، أو كون الحديث شاذا.
وهذه جملة تفاصيلها تدرك بالمباشرة والبحث، فاعلم ذلك فإنه من النفائس العزيزة، والله أعلم " انتهى من "معرفة أنواع علوم الحديث" (ص 103 – 104).
رابعا:
ينبغي التنبه أيضا إلى أنه ليس من شرط الاحتجاج بالحديث أن تعلم صحته علما جازما، بل تكفي غلبة الظن، فإنه يقوم مقام اليقين عند تخلّفه.
ومن أمثلة ذلك الأحاديث المختلف في صحتها، فأهل العلم متفقون على العمل بما يترجّح.
قال الآمدي رحمه الله تعالى:
" وأما أن العمل بالدليل الراجح واجب ؛ فيدل عليه ما نُقل وعُلم من إجماع الصحابة والسلف في الوقائع المختلفة على وجوب تقديم الراجح من الظَّنَين...
وكانوا لا يعدلون إلى الآراء والأقيسة إلا بعد البحث عن النصوص واليأس منها.
ومن فتش عن أحوالهم ونظر في وقائع اجتهاداتهم علم علما لا يشوبه ريب، أنهم كانوا يوجبون العمل بالراجح من الظنين دون أضعفهما " انتهى من "الإحكام في أصول الأحكام" (4 / 292).
فالحاصل؛ أن خبر الواحد الذي جمع شروط الصحة : يجب الاحتجاج والعمل به ؛ سواء أفاد يقينا، أو غلبة ظن.
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
" وأجمع أهل العلم من أهل الفقه والأثر في جميع الأمصار، فيما علمت، على قبول خبر الواحد العدل وإيجاب العمل به، إذا ثبت ولم ينسخه غيره من أثر أو إجماع، على هذا جميع الفقهاء في كل عصر من لدن الصحابة إلى يومنا هذا، إلا الخوارج وطوائف من أهل البدع شرذمة لا تعد خلافا " انتهى من "التمهيد" (1 / 2).
والله أعلم.