الحمد لله.
لقد ثبت أن الملائكة كانت تأتي إلى الأنبياء عليهم السلام على هيئة رجال، لأن هذا الملائم للطبع البشري.
قال الله تعالى: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ) الأنعام/9.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" فبين سبحانه أنه لو أنزل ملكا لم يمكنهم أن يروه إلا في صورة بشر، كما كان جبريل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآه الناس في صورة دحية الكلبي، أو في صورة أعرابي لما أتاه وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، وكذلك لمّا أتوا إبراهيم ولوطا ورأتهم سارة وقوم لوط لم يأتوا إلا في صورة رجال، وكذلك لما أتى جبريل مريم عليها السلام لينفخ فيها أتاها في صورة رجل، قال تعالى: ( فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً ، قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً ، قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً ) " انتهى من "الرد على المنطقيين" (ص 539).
وثبت أن جبريل عليه السلام كان يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة الصحابي دحية.
كما في حديث أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: (أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدَهُ أُمُّ سَلَمَةَ، فَجَعَلَ يُحَدِّثُ ثُمَّ قَامَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ سَلَمَةَ: مَنْ هَذَا؟
قَالَتْ: هَذَا دِحْيَةُ، قال فقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: ايْمُ اللَّهِ! مَا حَسِبْتُهُ إِلَّا إِيَّاهُ، حَتَّى سَمِعْتُ خُطْبَةَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُ عن جِبْرِيلَ) رواه البخاري (3634)، ومسلم (2451).
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ: ( وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ ) رواه الإمام أحمد في "المسند" (10/102)، وصححه محققو المسند.
وهذا التمثل في صورة دحية ليس من صور الكذب، لأن حقيقة الكذب هو الإخبار بخلاف الواقع، والملك لم يخبر بخلاف الواقع، فلم يقل أنا دحية، بل ظن الذين رأوه أنه دحية.
وكلام ابن تيمية رحمه الله تعالى لم ينسب الكذب إلى ذلك الجني بسبب تمثله بصورته ، بل بسبب زعمه وقوله: بأنه ابن تيمية.
وقد بيّن هذا شيخ الإ سلام في نهاية القصة التي ذكرها، حيث قال رحمه الله تعالى:
" … كنت في مصر في قلعتها، وجرى مثل هذا إلى كثير من الترك من ناحية المشرق، وقال له ذلك الشخص أنا ابن تيمية، فلم يشك ذلك الأمير أني أنا هو، وأخبر بذلك ملك ماردين، وأرسل بذلك ملك ماردين إلى ملك مصر رسولا وكنتُ في الحبس؛ فاستعظموا ذلك وأنا لم أخرج من الحبس، ولكن كان هذا جنيا يحبنا، فيصنع بالترك التتر مثل ما كنت أصنع بهم لما جاءوا إلى دمشق؛ كنت أدعوهم إلى الإسلام، فإذا نطق أحدهم بالشهادتين أطعمتهم ما تيسر، فعمل معهم مثل ما كنت أعمل، وأراد بذلك إكرامي، ليَظُن ذاك أني أنا الذي فعلت ذلك.
قال لي طائفة من الناس: فلم لا يجوز أن يكون ملكا؟
قلت: لا، إن الملك لا يكذب، وهذا قد قال: أنا ابن تيمية، وهو يعلم أنه كاذب في ذلك" انتهى من "مجموع الفتاوى" (13/ 92–93).
والله أعلم.