الحمد لله.
أولا:
هذه الجملة قالها شيخ الإسلام في حق مشايخ الشام، وفيهم من هو موافق له على اعتقاد السلف، وفيهم أشاعرة.
قال رحمه الله حاكيا ما جرى له مع علاء الدين الطيبرسي وهو في السجن:
" وأما المحاضر: فالشهود فيها فيهم من الأمور القادحة في شهادتهم وجوه متعددة، تمنع قبول شهادتهم بإجماع المسلمين، والذي شهدوا به، فقد علم المسلمون خاصتهم وعامتهم بالشام وغيره ضد ما شهدوا به.
وهذا القاضي "شرف الدين بن المقدسي": قد سمع منه الناس العدول أنه كان يقول: أنا على عقيدة فلان ، حتى قبل موته بثلاث، دخلت عليه فيما يرى مع طائفة، فقال قدامهم: أنا أموت على عقيدتك يا فلان، لست على عقيدة هؤلاء يعني الخصوم.
وكذلك القاضي شهاب الدين الخولي غير مرة يقول، في قفاك، أنا على عقيدته.
والقاضي " إمام الدين " قد شهد على العدول أنه قال : ما ظهر في كلامه شيء ، ومن تكلم فيه عزرته.
وقال لي في أثناء كلامه: فقد قال بعض القضاة: إنهم أنزلوك عن الكرسي.
فقلت: هذا من أظهر الكذب الذي يعلمه جميع الناس، ما أُنزلت من الكرسي قط ، ولا استتابني أحد قط عن شيء ولا استرجعني.
وقلت: قد وصل إليكم المحضر الذي فيه خطوط مشايخ الشام، وسادات الإسلام، والكتاب الذي فيه كلام الحكام، الذين هم خصومي، كجمال الدين المالكي، وجلال الدين الحنفي، وما ذكروا فيه مما يناقض هذه المحاضر. وقول المالكي : ما بلغني قط أنه استتيب ، ولا منع من فتيا ولا أنزل ولا كذا ولا كذا، ولا ثبت عليه عندي قط شيء يقدح في دينه ، وكذلك قول سائر العلماء والحكام في غيبتي" انتهى من "مجموع الفتاوى" (3/256).
ثانيا:
ثناء شيخ الإسلام على علماء الأشاعرة كثير.
فمن ذلك قوله رحمه الله بعد ذكر جماعة من الأشاعرة كأبي بكر الباقلاني، وأبي المعالي الجويني، ومن تبعهما:
" ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساع مشكورة، وحسنات مبرورة , وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم , وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف.
لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداء عن المعتزلة، وهم فضلاء عقلاء، احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه؛ فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين. وصار الناس بسبب ذلك:
منهم من يعظمهم، لما لهم من المحاسن والفضائل.
ومنهم من يذمهم، لما وقع في كلامهم من البدع والباطل.
وخيار الأمور أوسطها. وهذا ليس مخصوصاً بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين، والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات، ويتجاوز لهم عن السيئات، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم (الحشر: 10).
ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول، صلى الله عليه وسلم، وأخطأ في بعض ذلك؛ فالله يغفر له خطأه، تحقيقاً للدعاء الذي استجابه الله لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا (البقرة: 286) ". انتهى من "درء تعارض العقل والنقل" (2/102).
وقد أثنى رحمه الله على كبار أئمة الأشاعرة كأبي الحسن الأشعري، والغزالي، والرازي، فيما أصابوا فيه السنة، وردوا به شبهات الفلاسفة والمعتزلة وغيرهم، ومن ذلك قوله عن أبي حامد الغزالي لما نسب التأويل للإمام أحمد:
"ولم يكن ممن يتعمد الكذب، كان أجلّ قدراً من ذلك، وكان من أعظم الناس ذكاء، وطلباً للعلم، وبحثاً عن الأمور، ولما قاله؛ كان من أعظم الناس قصداً للحق، وله من الكلام الحسن المقبول أشياء عظيمة، بليغة، ومن حسن التقسيم والترتيب ما هو به من أحسن المصنفين.
لكن لكونه لم يصل إلى ما جاء به الرسول من الطرق الصحيحة؛ كان ينقل ذلك بحسب ما بلغه، لاسيما مع هذا الأصل الفاسد؛ إذ جعل النبوات فرعاً على غيرها" انتهى من "بيان تلبيس الجهمية" (6/127).
ثالثا:
لا عجب في ثناء شيخ الإسلام على العلماء والفضلاء من الأشاعرة؛ إذ هم بين مجتهد مغفور له خطؤه، أو متأول، أو مقلد معذور، وهو رحمه الله من أوسع الناس مسلكا في باب الإعذار كما هو معروف.
قال رحمه الله في تقرير العذر بالتأويل، وأنه يكون في المسائل العلمية والعملية:
" وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها؛ قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهدا في طلب الحق، وأخطأ؛ فإن الله يغفر له خطأه، كائنا ما كان، سواء كان في المسائل النظرية أو العملية؛ هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وجماهير أئمة الإسلام" انتهى من "مجموع الفتاوى" (23/346).
فإذا كان العالم من هؤلاء معذورا فيما خالف فيه اعتقاد السلف، وكانت له جهود مشكورة في تفسير القرآن، أو شرح الحديث، أو تقرير الفقه، فإنه يثنى عليه فيما أصاب وأحسن فيه.
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم: (289620).
والله أعلم.