الحمد لله.
شروط الحديث الصحيح، إنما اشترطت لتحقيق غلبة الظن بأن الراوي: قد صدق، وضبط، ولم يهم في روايته.
وقد تعددت نظرة أئمة الحديث إلى رواية المبتدع، في مدى تأثير بدعته على روايته، وتعددت الأقوال المنقولة في هذه المسألة، كما تجدها مطروحة في كتب مصطلح الحديث، ومن هذه الأقوال:
القول الأول:
رأى أصحابه أن رواية المبتدع مردودة، وأن سيره وراء بدعته أمارة على تتبعه الهوى، فهو بهذا الجري وراء الهوى غير مأمون على رواية الأخبار.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" والمانعون الرواية لهم مأخذان:
أحدهما: لكفر أهل الأهواء، وفسقهم، وفيه خلاف مشهور.
والثاني: الإهانة لهم، والهجران والعقوبة، وترك الرواية عنهم، وإن لم نحكم بكفرهم أو فسقهم.
ولهم مأخذ ثالث: وهو أن الهوى والبدعة لا يؤمن معه الكذب، لا سيما إذا كانت الرواية مما تعضد هوى الراوي.
وروى أبو عبد الرحمن المقري، عن ابن لهيعة: " أنه سمع رجلا من أهل البدع رجع عن بدعته وجعل يقول: انظروا هذا الحديث عمن تأخذونه، فإنا كنا إذا رأينا جعلناه حديثا". " انتهى من "شرح علل الترمذي" (1/357).
ومما يساق في هذا القول، ما رواه الإمام مسلم في "مقدمة صحيحه" (1 / 15) عن ابْنِ سِيرِينَ، أنه قال: ( لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الْإِسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ، قَالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ، فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ، وَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلَا يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ )
القول الثاني:
التفريق بين المبتدع الداعية إلى بدعته وغير الداعية.
فالداعية، ربما يجره هوى نشر بدعته إلى تعمد الكذب.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى:
" وأما من ترك الدعاة من أهل البدع أن يروي عنهم، وروى عمن لم يكن داعية أو أفتى بذلك...
مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ، يَقُولُ: ( مَنْ رَأَى رَأْيًا وَلَمْ يَدْعُ إِلَيْهِ: احْتُمِلَ، وَمَنْ رَأَى رَأْيًا وَدَعَا إِلَيْهِ: فَقَدِ اسْتَحَقَّ التَّرْكَ )...
أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْأَشْعَثِ السِّجِسْتَانِيُّ، قَالَ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: يُكْتَبُ عَنِ الْقَدَرِيِّ؟ قَالَ: ( إِذَا لَمْ يَكُنْ دَاعِيًا ).
قال الخطيب: إنما منعوا أن يكتب عن الدعاة، خوفا أن تحملهم الدعوة إلى البدعة والترغيب فيها على وضع ما يحسنها، كما حكينا في الباب الذي قبل هذا عن الخارجي التائب قوله: كنا إذا هوينا أمرا صيرناه حديثا " انتهى من "الكفاية" (1 / 382 - 386).
ولأن في الرواية عنه تهوينا لأمر البدعة في قلوب الناس، بتشريف هؤلاء الدعاة بأخذ العلم منهم.
قال ابن حبان رحمه الله تعالى:
" وأما المنتحلون المذاهب من الرواة مثل الإرجاء والترفض وما أشبههما، فإنا نحتج بأخبارهم إذا كانوا ثقات، على الشرط الذي وصفناه، ونكل مذاهبهم وما تقلدوه فيما بينهم وبين خالقهم إلى الله جل وعلا، إلا أن يكونوا دعاة إلى ما انتحلوا، فإن الداعي إلى مذهبه، والذاب عنه حتى يصير إماما فيه، وإن كان ثقة، ثم روينا عنه: جعلنا للأتباع لمذهبه طريقا، وسوغنا للمتعلم الاعتماد عليه وعلى قوله، فالاحتياط ترك رواية الأئمة الدعاة منهم، والاحتجاج بالرواة الثقات منهم على حسب ما وصفناه " انتهى من "صحيح ابن حبان" (1/160).
القول الثالث:
التفريق بين أصحاب البدع الغليظة الشنيعة، التي هي أمارة على عناد وجرأة أصحابها، كغلاة الروافض، وأصحاب البدع الأخف التي لا تثير شبهة صدور الكذب من أصحابها كالتشيع الخفيف ونحوه.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" ومنهم من فرق بين من يغلو في هواه ومن لا يغلوه، كما ترك ابن خزيمة حديث عباد بن يعقوب لغلوه...
وقريب من هذا القول من فرق بين البدع المغلظة، كالتجهم والرفض والخارجية والقدر، والبدع المخففة ذات الشبه، كالإرجاء.
قال أحمد في رواية أبي داود: احتملوا من المرجئة الحديث، ويكتب عن القدري إذا لم يكن داعية...
فيخرج من هذا: أن البدع الغليظة، كالتجهم؛ ترد بها الرواية مطلقا، والمتوسطة كالقدر، إنما ترد رواية الداعي إليها، والخفية كالأرجاء، هل تقبل معها الرواية مطلقا، أو ترد عن الداعية؟ على روايتين " انتهى من "شرح علل الترمذي" (1/358).
القول الرابع:
هو معاملة المبتدع المسلم كسائر المسلمين، حيث يقبل حديثه إن عرف منه الديانة وصدق اللهجة وضبط ما يسمعه، ويترك حديثه إن ظهرت منه ريبة، كأن يظهر أن بدعته صادرة عن عناد وقلة تقوى، لا عن شبهة وتأويل.
قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى:
" واعلم وفقك الله تعالى أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها، وثقات الناقلين لها من المتهمين، أن لا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه، والستارة في ناقليه، وأن يتقي منها ما كان منها عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع " انتهى من "صحيح مسلم - المقدمة" (1/8).
وهذا الذي يفهم من تصرف السلف في قبول شهادة جملة ممن ينسب إلى البدعة، وأخذ الحديث عنهم إذا علموا منهم صدق الديانة واللهجة.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى:
" والذي نعتمد عليه في تجويز الاحتجاج بأخبارهم: ما اشتهر من قبول الصحابة أخبار الخوارج وشهاداتهم، ومن جرى مجراهم من الفساق بالتأويل، ثم استمرار عمل التابعين والخالفين بعدهم على ذلك، لما رأوا من تحريهم الصدق وتعظيمهم الكذب، وحفظهم أنفسهم عن المحظورات من الأفعال، وإنكارهم على أهل الريب والطرائق المذمومة، ورواياتهم الأحاديث التي تخالف آراءهم، ويتعلق بها مخالفوهم في الاحتجاج عليهم، فاحتجوا برواية عمران بن حطان وهو من الخوارج، وعمرو بن دينار وكان ممن يذهب إلى القدر والتشيع، وكان عكرمة إباضيا، وابن أبي نجيح وكان معتزليا... في خلق كثير يتسع ذكرهم، دوّن أهل العلم قديما وحديثا رواياتهم، واحتجوا بأخبارهم، فصار ذلك كالإجماع منهم، وهو أكبر الحجج في هذا الباب، وبه يقوى الظن في مقاربة الصواب" انتهى من "الكفاية" (1/380).
وعلى هذا ينزل تصرف الإمام البخاري في اخراجه لحديث عمران بن حطان في "الصحيح".
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" عمران بن حطان السدوسي، الشاعر المشهور: كان يرى رأي الخوارج، قال أبو العباس المبرد: كان عمران رأس القَعَدية من الصُّفْرية، وخطيبهم وشاعرهم. انتهى.
والقعدية قوم من الخوارج كانوا يقولون بقولهم ولا يرون الخروج بل يزينونه، وكان عمران داعية إلى مذهبه، وهو الذي رثى عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي عليه السلام بتلك الأبيات السائرة، وقد وثقه العجلي، وقال قتادة: كان لا يتهم في الحديث. وقال أبو داود: ليس في أهل الأهواء أصح حديثا من الخوارج ثم ذكر عمران هذا وغيره...
قلت: لم يخرج له البخاري سوى حديث واحد من رواية يحيى بن أبي كثير عنه، قال: سألت عائشة عن الحرير...
وهذا الحديث إنما أخرجه البخاري في المتابعات، فللحديث عنده طرق غير هذه من رواية عمر وغيره...
فلا يضر التخريج عمن هذا سبيله في المتابعات. والله أعلم" انتهى من "هدي الساري" (ص 433).
وقال رحمه الله تعالى:
" عمران بن حطان...
كان أحد الخوارج من القعدية، بل هو رئيسهم وشاعرهم، وهو الذي مدح ابن ملجم قاتل علي بالأبيات المشهورة، وأبوه حِطّان، وإنما أخرج له البخاري على قاعدته في تخريج أحاديث المبتدع إذا كان صادق اللهجة متدينا... " انتهى من "فتح الباري" (10 / 290).
وينظر جواب السؤال (443513)
والله أعلم.