الحمد لله.
أولًا:
سبق في جواب السؤال رقم: (125876) تفاصيل الأخبار والروايات الواردة في واقعة فدك، فلينظر.
ثانيًا:
ينحصر سؤالك أخي الكريم في أنك تستشكل كيف يخفى العلم بذلك عن فاطمة رضي الله عنها.
والحقيقة تنكشف لك إن تصورت معنا أمرين:
الأمر الأول:
أن خفاء العلم ببعض الأشياء، أمر معتاد ومألوف في عموم الناس، وفي صحابة رسول الله؛ فأنت تجد مثلًا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد خفي عليه خبر الاستئذان، وفيه أنَّ أبا موسى الأشعريَّ جاء يستأذنُ على عمرَ بنِ الخطابِ فاستأذنَ ثلاثًا، ثم رجع، فأرسلَ عمرُ بنُ الخطابِ في أَثَرِهِ، فقال: ما لك لم تدخلْ ؟ فقال أبو موسى سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقولُ: الاستئذانُ ثلاثٌ فإن أُذِنَ لكَ فادخلْ، وإلا فارجعْ، فقال عمرُ بنُ الخطابِ: ومن يعلمُ هذا ؟ لئن لم تأتِ بمن يعلمُ ذلك لأفعلنَّ بك كذا وكذا، فخرج أبو موسى حتى جاء مجلسًا في المسجدِ، يُقالُ لهُ مجلسُ الأنصارِ فقال: إني أخبرتُ عمرَ بنَ الخطابِ أني سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقولُ: الاستئذانُ ثلاثٌ فإن أُذِنَ لكَ فادخلْ، وإلا فارجع فقال: لئن لم تأتِ بمن يعلمُ هذا لأفعلنَّ بك كذا وكذا، فإن كان سمع ذلك أحدٌ منكم فليَقُمْ معي، فقالوا لأبي سعيدٍ الخدريِّ: قم معَهُ، وكان أبو سعيدٍ أصغرهم فقام معهُ، فأخبر ذلك عمرَ بنَ الخطابِ.
فقال عمرُ لأبي موسى: أما أني لم أَتَّهِمْكَ، ولكني خشيتُ أن يَتَقَوَّلَ الناسُ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.
ينظر القصة بألفاظها في : صحيح البخاري (6245) وصحيح مسلم (2153).
ويقول ابن القيم رحمه الله: "فهم ابن عباس من قوله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا)، مع قوله : (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ) : أن المرأة قد تلد لستة أشهر، ولم يفهمه عثمان، فهم برجم امرأة ولدت لها، حتى ذكره به ابن عباس، فأقر به.
ولم يفهم عمر من قوله: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ؛ فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها) ، قتال مانعي الزكاة ، حتى بين له الصديق ، فأقر به" انتهى، من "إعلام الموقعين" (2/188).
ويقول ابن القيم: "كل أحد بعد الرسول لا بد أن يشتبه عليه بعض ما جاء به ، وكل من اشتبه عليه شيء ، وجب عليه أن يكله إلى من هو أعلم منه، فإن تبين له ، صار عالما مثله ، وإلا وكله إليه ولم يتكلف مالا علم به .
فهذا هو الواجب علينا في كتاب ربنا ، وسنة نبينا ، وأقوال أصحابه . وقد جعل الله سبحانه فوق كل ذي علم عليم ؛ فمن خفي عليه بعض الحق ، فوكله إلى من هو أعلم منه ؛ فقد أصاب" انتهى، من "إعلام الموقعين" (3/124).
الأمر الثاني:
الذي يجول في نفسك هو كيف يخفى على فاطمة رضي الله عنها، أمر يتعلق بممتلكات أبيها عليه الصلاة والسلام، وأنها ستكون صدقة ليست ميراثًا.
وهذا في الحقيقة نابع من أننا نقيس أحوالنا بأحوالهم ، فنظن أن فاطمة رضي الله عنها كانت حريصة على رصد الممتلكات، وتتداول أمرها، وتفكر في ميراثها من أبيها، وهذا لو صح لربما كان من البعيد أن يخفى عليها علم ذلك ، كما ذكرنا في الأمر الأول، لكن الواقع أن أحوالهم الشريفة كانت بعيدة كل البعد عن التفكير في هذه الأمور، أو الانشغال بجمع المعلومات عنها، فكان من الطبيعي أن يعلمها الوزير الأول، وأول من فقه طبيعة موت النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من الطبيعي أن تخفى على الحبيبة ابنة الحبيب ، التي لم يجل في خاطرها يومًا موت أبيها وما سترثه بعده.
إذا فهمت معنا هذين الأمرين، أن الملك والإرث لم يكونا من هموم فاطمة، ولا مما يشغلها في حياة أبيها، صلى الله عليه وسلم، وأن خفاء العلم - خاصة بما لا يهتم به الإنسان- : وارد بقوة؛ أمكنك أن ترى عدم علم فاطمة بهذا، وعلم أبي بكر الذي كان قريبًا من رسول الله طوال حياته، وفي لحظاته الأخيرة، والأكثر قربًا من فهم طبيعة النبوة، بسبب علاقة الصديقية والوزارة، التي تختلف عن طبيعة علاقة البنوة؛ نقول: إذا فهمت ذلك كله؛ فسترى أن خفاء ذلك عليها، وعلم أبي بكر به: هو شيء طبيعي، ومنطقي ، ومفهوم .. جدا .
والله أعلم.