ما الحكمة من التمتع بالذهب والؤلؤ في الجنة، مع انعدام المنفعة فيها كحال الدنيا، حيث اكتناز الذهب واللؤلؤ للاستفادة من قيمتها في المنافع المعيشية؟
الحمد لله.
أولًا:
التعلق بالزينة والحلي من الذهب والفضة والأحجار الكريمة هو مما يتنعم به الإنسان في الدنيا وغالب الناس تتعلق قلوبهم بهذه المعادن الكريمة، لأجل ذلك يخبر الله فيقول: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ آل عمران/14.
ويقول تعالى عن النساء وطبيعة علاقتهم بالحلي: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ الزخرف/18.
ولأجل ذلك جعل الله الذهب والأحجار الكريمة من نعيم أهل الجنة، مع كونها في الجنة على طبيعة لا تشبه طبيعتها في الدنيا إلا من ناحية الاسم فحسب، كسائر النعيم الأخروي.
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا الكهف/30-31
وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ.
وقال تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ فاطر/33.
وقال تعالى: عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا الإنسان/21.
وأخرج مسلم (250) عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سَمِعْتُ خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنْ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُوءُ).
ثانيًا:
إذا اتضح ما تقدم ظهر جواب السؤال، وذلك أن هذه الحلي لا يُقصد بها جانبها المالي الثمني أصلًا، وإنما يُقصد بها جانب الزينة، ولذلك يقتني الحلي من لا يحتاج لقيمتها الثمنية، ولم يقتنها لأجل خزن المال فيها، وإنما اقتناها لأجل التزين بها، ولو أراد اقتناءها لأجل الثمن لاقتنى السبائك الذهبية، أو اللؤلؤ الخام غير المشغول، كما يفعله بعض الناس، لكنهم يقتنون مشغولات ذهبية وفضية ومشغولات مصنوعة من اللؤلؤ والماس، بغرض التزين بشكلها وجوهرها الكريم.
ولذلك يدفع الناس في هذه الحلي أثمانًا تفوق القيمة الثمنية للذهب الداخل في صناعة الحلية، ويكون هذا الثمن الزائد لأجل التصميم وطريقة الصناعة، ونحوها من أمور تتعلق بالتحلي ولا تتعلق بالقيمة المالية المباشرة.
فالفكرة التي بني عليها السؤال، وهي أن اقتناء الذهب والفضة واللؤلؤ إنما هو للاستفادة من قيمتها في الأمور المعيشية؛ فكرة قد تصدق على تصرفات بعض الناس الذين يقصدون باقتناء هذه المعادن حفظ المال، لكن هذا لا ينفي أن الغرض الآخر الذي هو محض التزين موجود ومنتشر، وهذا الغرض هو الذي على أساسه جعل الله التحلي بالذهب والفضة والأحجار الكريمة من نعيم أهل الجنة.
وفي الحديث الصحيح عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ حَرِيرًا، فَجَعَلَهُ فِي يَمِينِهِ، وَأَخَذَ ذَهَبًا فَجَعَلَهُ فِي شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: (ِنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي) أخرجه أبو داود(4057)، والترمذي(1720)، والنسائي(5144).
وفي الحديث: " أَنَّ حُذَيْفَةَ اسْتَسْقَى، فَأَتَاهُ إِنْسَانٌ بِإِنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ فَرَمَاهُ بِهِ، وَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ قَدْ نَهَيْتُهُ فَأَبَى أَنْ يَنْتَهِيَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانَا أَنْ نَشْرَبَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ، وَقَالَ: (هُوَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ) أخرجه البخاري(5426)، ومسلم(2067)، والترمذي(1878) واللفظ له.
والمحرم على الذكور من الذهب والحرير: هو هذا الجانب المتعلق بالتزين بهما ونحو ذلك؛ ولذلك فاقتناء الرجل للدنانير الذهبية، أو لذهب مخزون لأجل المال، لا يستعمله هو في زينة ولا شيء: ليس حرامًا.
فظهر من ذلك أن المحرم في الدنيا والذي سيباح في الآخرة من الذهب هو ما قُصد به التزين ففي الآخرة لن يقصد الناس جانب المال من الحلي لعدم حاجتهم كما تفضلت لكن سيبقى المقصود الآخر الذي هو الزينة حاضرًا وهو المناسب لتفضل الله على المؤمنين بصور النعيم في الآخرة.
والله أعلم.