قمت أثناء وفاة والدتي بمصاريف الجنازة، وبعد الوفاة هناك مبلغ مالي تصرفه جهة التأمين والمعاشات الخاصة بوالدتي لمن تحمل تكاليف الجنازة، وهو مبلغ أكبر مما تم صرفه على الجنازة، ويتم صرف هذا المبلغ في حساب من قام بمصاريف الجنازة، وهو الوحيد المخول بصرفها، والتقديم عليها. فهل هذا المبلغ من حقي أنا وحدي، أم يجب علي أن أقوم بخصم ما صرفته، وتوزيع الباقي على الورثة؟
الحمد لله.
أولا:
الأصل أن مؤنة تجهيز الميت، أو ما يسمى بمصاريف الجنازة تؤخذ من مال المتوفى، فذلك مقدم على سداد دينه وإنفاذ وصيته وتقسيم تركته.
قال في "منار السبيل" (2/50): "(وإذا مات الإنسان: بُدئ من تركته بكفنه وحَنوطه ومؤنة تجهيزه من رأس ماله، سواء كان قد تعلق به حق رهن أو أرش جناية أو لا)، كما يقدم المفلس بنفقته على غرمائه.
(وما بقي بعد ذلك تُقضى منه ديون الله) تعالى كالزكاة، والكفارة، والحج الواجب، والنذر.
(وديون الآدميين) كالقرض، والثَّمن، والأجرة، وقيم المتلفات؛ لقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ. قال علي رضي الله عنه: إن النبي، صلى الله عليه وسلم، قضى أن الدين قبل الوصية، رواه الترمذي وابن ماجه.
(وما بقي بعد ذلك، تنفذ وصاياه من ثلثه)؛ للآية، إلا أن يجيزها الورثة، فتنفذ من جميع الباقي.
(ثم يقسم ما بقي بعد ذلك على ورثته)؛ للآيات في سورة النساء" انتهى.
ثانيا:
إن تبرع بمصاريف الجنازة جهة ما كالتأمينات أو المعاشات أو غير ذلك، فلا حرج، فيصرف منه على الجنازة، ثم ما زاد يدخل في التركة ويقسم على الورثة.
وذلك أن التركة ما خلفه الميت من مال، وما جاء بعد موته بسبب منه.
وفي "الموسوعة الفقهية" (11/208): " وصرح الشافعية بأن من التركة أيضا ما دخل في ملكه بعد موته، بسببٍ كان منه في حياته، كصيد وقع في شبكة نصبها في حياته، فإن نصبه للشبكة للاصطياد هو سبب الملك، وكما لو مات عن خمر فتخللت بعد موته" انتهى.
وينظر: "أسنى المطالب" (3/3)، "تحفة المحتاج" (6/382).
ولا عبرة بكون التأمينات تصرف المال باسم من دفع المصاريف أو طلبها.
ثالثا:
إن كنت قد دفعت مصاريف الجنازة على نية أن تأخذ ذلك مما تدفعه التأمينات، أو من بقية الورثة، فلا حرج أن تأخذ ما دفعت.
وإن كنت لم تنو ذلك، وإنما دفعته تبرعا، مع علمك بما تدفعه التأمينات لأجل ذلك: فليس لك أن تأخذ عوضا عنه؛ لأنه رجوع في الهبة وهو محرم؛ روى البخاري (2589)، ومسلم (1622) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ.
وفي رواية للبخاري (2622) لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ الَّذِي يَعُودُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَرْجِعُ فِي قَيْئِهِ.
وروى أبو داود (3539)، والترمذي (2132)، والنسائي (3690)، وابن ماجه (2377).
عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً أَوْ يَهَبَ هِبَةً فَيَرْجِعَ فِيهَا إِلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ وَمَثَلُ الَّذِي يُعْطِي الْعَطِيَّةَ ثُمَّ يَرْجِعُ فِيهَا كَمَثَلِ الْكَلْبِ يَأْكُلُ فَإِذَا شَبِعَ قَاءَ ثُمَّ عَادَ فِي قَيْئِهِ والحديث صححه الألباني في صحيح أبي داود.
وحينئذ فما جاء من التأمينات يقسم كله على الورثة وأنت منهم، إلا إذا رضي الورثة بإعطائك ما أنفقت وقسمة الباقي.
والله أعلم.