كيف يقع طلاق الهازل، وهو لا يقصد وقوعه؟

13-11-2023

السؤال 448441

لدي إشكال في دليل الحديث المعتمد عليه في فتوى رقم: (44038) بخصوص وقوع الطلاق مازحا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد... الى اخر الحديث). كيف يتم الاعتماد على حديث مختلف في صحته، ضعفه علماء، وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله، كما ورد ذلك في فتوى رقم: (44038) في إصدار حكم شرعي عظيم كالطلاق؟ وكيف يتم إيقاع الطلاق مع عدم وجود النية مازحا على الرغم من وجود فتوى أخرى: (70460) في موقعكم لزوم وقوع الطلاق يستلزم وجود النية، لو أرسل الزوج رسالة بطلاق زوجته مازحا؟ كيف يمكن التوفيق بين وقوع الطلاق مازحا مع عدم وجود النية بذلك، وبين القاعدة الشرعية: العبرة بالمقاصد والمعاني وليس بالألفاظ والمباني؟

الجواب

الحمد لله.

أولا:

روى أبو داود (2194)، والترمذي (1184)، وابن ماجه (2039): عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَبِيبٍ بْنِ أَرْدَكَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ.

وقد حسنه وصححه بعض أهل العلم.

فقال عنه الترمذي: " هذا حديث حسن غريب ".

وقال الحاكم رحمه الله تعالى: " هذا حديث صحيح الإسناد، وعبد الرحمن بن حبيب هذا هو ابن أردك من ثقات المدنيين، ولم يخرجاه " انتهى من "المستدرك" (2/198).

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: " قال الترمذي: حسن. وقال الحاكم: صحيح. وأقره صاحب "الإلمام" وهو من رواية عبد الرحمن بن حبيب بن أردك، وهو مختلف فيه، قال النسائي: منكر الحديث. ووثقه غيره.

فهو على هذا حسن " انتهى من "التلخيص الحبير" (5/ 2445).

لكن تعقب الذهبيُّ الحاكمَ، فقال عن عبد الرحمن بن حبيب بن أردك: " فيه لين ".

وقال في "ميزان الاعتدال": " صدوق، وله ما ينكر.

روى عنه سليمان بن بلال، وحاتم بن إسماعيل.

قال النسائي: منكر الحديث، وخرج له الترمذي، عن عطاء، عن ابن ماهك عن أبي هريرة - مرفوعاً: ثلاث هزلهن جد، وقال: حسن غريب " انتهى من "ميزان الاعتدال" (2/555).

فهذا الحديث في إسناده مقال ، لتفرد عبد الرحمن بن حبيب مع عدم شهرة حاله، وتكلم النسائي فيه.

قال ابن القطان رحمه الله تعالى:

" فينبغي أن تعرف العلة المانعة له من الصحة، وذلك أنه من رواية عبد الرحمن بن حبيب بن أردك، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن ماهك: هو يوسف، عن أبي هريرة.

وابن أردك مولى بني مخزوم، وإن كان قد روى عنه جماعة: - إسماعيل بن جعفر، وحاتم بن إسماعيل، والدراوردي، وسليمان بن بلال - فإنه لا تعرف حاله " انتهى من "بيان الوهم والايهام" (3 / 509 - 510).

لكن مثله مما يتقوى بالشواهد والمتابعات، ولذا حسنه بعض أهل العلم، لما له من شواهد، ومن ذلك قول الشيخ الألباني رحمه الله تعالى:

" والذى يتلخص عندي مما سبق: أن الحديث حسن بمجموع طريق أبى هريرة الأولى التي حسنها الترمذي وطريق الحسن البصرى المرسلة، وقد يزداد قوة بحديث عبادة بن الصامت ، والآثار المذكورة عن الصحابة فإنها - ولو لم يتبين لنا ثبوتها عنهم، عن كل واحد منهم - تدل على أن معنى الحديث كان معروفا عندهم، والله أعلم " انتهى من "إرواء الغليل" (6/ 228).

وعلى القول بضعف الحديث، فليس كل حديث حكم بضعف إسناده يحكم ببطلان معنى متنه، فقد يوجد ما يشهد لمعناه بالصحة.

قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:

" والحديث الضعيف لا يُدفع، وإن لم يحتج به؛ ورُبَّ حديثٍ ضعيف الإسناد، صحيح المعنى " انتهى من "التمهيد" (1/58).

ومعنى هذا الحديث قد مضى عليه عمل السلف، فالعلماء المتقدمون العالمون بمواضع اتفاق واختلاف السلف لم ينسبوا للسلف إلا القول بوقوع طلاق الهازل.

فقال الترمذي عقب الحديث: " والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم " انتهى.

وقال ابن المنذر رحمه الله تعالى:

" أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن جِدَّ الطلاق وهزله سواء، روي هذا القول عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود... " انتهى من "الإشراف" (5/230).

وقال الخطابي رحمه الله تعالى:

" اتفق عامة أهل العلم على أن صريح لفظ الطلاق، إذا جرى على لسان البالغ العاقل: فأنه مؤاخذ به، ولا ينفعه أن يقول كنت لاعبا أو هازلا، أو لم أنو به طلاقا، أو ما أشبه ذلك من الأمور " انتهى من "معالم السنن" (3 /243).

ثانيا:

ما تقرر من وقوع طلاق الهازل، لا يتعارض مع قاعدة،" الأعمال بالنيات "، و "الأمور بمقاصدها"؛ لأن طلاق الهازل هو متعلق بمن قصد النطق بالطلاق، وهو متصوِّر لمعناه، وليس بمن نطق به سهوا من غير تعمد؛ ولأن اعتبار القصد، يكون حيث اعتبره الشارع، فالشارع لم يعتبر قصد الهازل بآيات الله، فجعل هزله كعمده؛ حيث قال تعالى:

يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ التوبة/64 – 66.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: " الكلام المتضمن لمعنى فيه حق لله سبحانه لا يمكن قبوله مع دفع ذلك الحق فإن العبد ليس له أن يهزل مع ربه ولا يستهزىء بآياته ولايتلاعب بحدوده". انتهى، من "بيان الدليل على بطلان التحليل" (108).

وهكذا نهى الله عن الاستهزاء في آية الطلاق، حيث قال الله سبحانه وتعالى:

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا البقرة/231.

قال ابن المنذر رحمه الله تعالى:

" ... وبه قال أبو عبيد، وذكر أنه قول الثوري، واحتج بقوله: (وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا) " انتهى من "الإشراف" (5/ 230 – 231).

وقال الخطابي رحمه الله تعالى:

" واحتج بعض العلماء في ذلك بقول الله تعالى ( وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا )، وقال لو أطلق للناس ذلك لتعطلت الأحكام ولم يشأ مطلق أو ناكح أو معتق أن يقول كنت في قولي هازلاً فيكون في ذلك إبطال أحكام الله سبحانه وتعالى وذلك غير جائز فكل من تكلم بشيء مما جاء ذكره في هذا الحديث لزمه حكمه ولم يقبل منه أن يدعى خلافه وذلك تأكيد لأمر الفروج واحتياط له، والله أعلم " انتهى من "معالم السنن" (3/243).

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:

" المستهزئ ‌والهازل؛ فإنه يلزمه الطلاق والكفر وإن كان هازلا، لأنه قاصد للتكلم باللفظ، وهزله لا يكون عذرا له، بخلاف المكره والمخطئ والناسي فإنه معذور مأمور بما يقوله أو مأذون له فيه، والهازل غير مأذون له في الهزل بكلمة الكفر والعقود؛ فهو متكلم باللفظ مريد له، ولم يصرِفه عن معناه إكراه ولا خطأ ولا نسيان ولا جهل. والهزل لم يجعله الله ورسوله عذرا صارفا، بل صاحبه أحقّ بالعقوبة " انتهى من "أعلام الموقعين" (3 / 529 - 530).

وقال رحمه الله تعالى:

" والفقه فيه أن الهازل أتى بالقول غير ملتزمٍ لحكمه، وترتيب الأحكام على الأسباب للشارع لا للعاقد، فإذا أتى بالسبب لزمه حكمه شاء أم أبى؛ لأن ذلك لا يقف على اختياره، وذلك أن الهازل قاصد للقول مريد له مع علمه بمعناه وموجبه، وقصد اللفظ المتضمن للمعنى قصد لذلك المعنى لتلازمهما، إلا أن يعارضه قصد آخر كالمكره...

وأما من جهة المعنى فإن النكاح والطلاق والرجعة والعتق فيها حقٌ لله، أما العتق فظاهر، وأما الطلاق فإنه يوجب تحريم البضع، ولهذا تجب إقامة الشهادة فيه وإن لم تطلبها الزوجة... وإذا كان كذلك لم يكن للعبد ــ مع تعاطي السبب الموجب لهذه الأحكام ــ أن لا يرتّب عليها موجباتها، كما ليس له ذلك في كلمات الكفر إذا هزل بها كما صرّح به القرآن؛ فإن الكلام المتضمن لحقّ الله لا يمكن قوله مع رفع ذلك الحق؛ إذ ليس للعبد أن يهزِل مع ربّه ولا يستهزئ بآياته ولا يتلاعب بحدوده...

وحاصل الأمر أن اللعب والهزل والمزاح في حقوق الله غير جائز، فيكون جدّ القول وهزله سواء، بخلاف جانب العباد… ومما يوضّحه أن عقد النكاح يشبه العبادات في نفسه، بل هو مقدّم على نفلها، ولهذا يستحبّ عقده في المساجد، ويُنهى عن البيع فيها، ومن يشرط له لفظا بالعربية راعى فيه ذلك إلحاقا له بالأذكار المشروعة، ومثل هذا لا يجوز الهزل به، فإذا تكلّم به رتّب الشارع عليه حكمه وإن لم يقصده، بحكم ولاية الشارع على العبد، فالمكلّف قصد السبب، والشارع قصد الحكم، فصارا مقصودين كليهما " انتهى من "أعلام الموقعين" (3 / 619 – 622).

والله أعلم.

عرض في موقع إسلام سؤال وجواب