الحمد لله.
أولا:
تجب طاعة الوالدين في المعروف؛ لعموم الأدلة الدالة على وجوب الإحسان إليهما، وتحريم أذاهما ولو بالتأفف.
ويدل عليه أيضا: النهي عن طاعتهما في الشرك، فدل على وجوب طاعتهما في المعروف.
قال تعالى: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) لقمان/15.
جاء في "الموسوعة الفقهية" (28/ 325): "طاعة الوالدين والإحسان إليهما فرض على الولد، قال تعالى: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا.
قال القرطبي: أمر الله سبحانه بعبادته وتوحيده وجعل بر الوالدين مقرونا بذلك كما قرن شكرهما بشكره، فقال: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا وقال: أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير. وقال الجصاص: (وقضى ربك) معناه: أمر ربك، وأمر بالوالدين إحسانا، وقيل معناه: وأوصى بالوالدين إحسانا، والمعنى واحد، لأن الوصية أمر، وقد أوصى الله تعالى ببر الوالدين والإحسان إليهما في غير موضع من كتابه، وقال ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا.
قال ابن العربي: لا يجوز أن يكون معنى قضى هاهنا إلا أمر.
وعن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين) .
وقال هشام بن عروة عن أبيه في قوله تعالى: واخفض لهما جناح الذل من الرحمة : لا تمنعهما شيئا يريدانه.
وحق الطاعة للوالدين ليس مقصورا على الوالدين المسلمين، بل هو مكفول - أيضا - للوالدين المشركين، قال الجصاص في قوله تعالى: أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا أمر بمصاحبة الوالدين المشركين بالمعروف مع النهي عن طاعتهما في الشرك؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وقال ابن حجر في قوله تعالى: ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما اقتضت الآية الوصية بالوالدين والأمر بطاعتهما ولو كانا كافرين، إلا إذا أمرا بالشرك فتجب معصيتهما في ذلك" انتهى من الموسوعة الفقهية.
وجاء في "فتاوى اللجنة الدائمة" (1/ 541): "طاعة الوالدين واجبة في المعروف، وأما إذا أمرا بمعصية فلا طاعة لهما؛ لما ثبت من قول النبي صلى الله عليه وسلم: إنما الطاعة في المعروف.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الشيخ عبد الله بن قعود ... الشيخ عبد الله بن غديان ... الشيخ عبد الرزاق عفيفي ... الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز" انتهى.
ثانيا:
وجوب هذه الطاعة مقيد بأمرين: بما فيه منفعة لهما، ولا مضرة فيه على الولد.
فلا تجب طاعتهما فيما لا منفعة فيه ، أو لا مصلحة لهما فيه.
ولا تجب طاعتهما فيما فيه مضرة على الولد.
وضبطه بعض الفقهاء بما فيه تأذٍّ لهما ليس بالهين، أي تجب طاعتهما إذا كان في عدم الطاعة حصول أذى معتبر لهما ليس بالهين، بشرط ألا يكون الباعث على الأمر مجرد الحمق.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وَيَلْزَمُ الْإِنْسَانَ طَاعَةُ وَالِدِيهِ فِي غَيْرِ الْمَعْصِيَةِ وَإِنْ كَانَا فَاسِقَيْنِ، وَهُوَ ظَاهِرُ إطْلَاقِ أَحْمَدَ، وَهَذَا فِيمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لَهُمَا وَلَا ضَرَرَ.
فَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَضُرَّهُ: وَجَبَ، وَإِلَّا فَلَا" انتهى من "الفتاوى الكبرى" (5/381).
وجاء في الفتاوى الفقهية لابن حجر الهيتمي: " وأمره لولده بفعل مباح لا مشقة على الولد فيه، يتعين على الولد امتثال أمره، إن تأذى أذى ليس بالهين إن لم يمتثل أمره.
ومحله أيضا: حيث لم يقطع كل عاقل بأن ذلك من الأب مجرد حمق وقلة عقل؛ لأني أقيد حل بعض المتأخرين للعقوق بأن يفعل مع والده ما يتأذى به إيذاء ليس بالهين، بما إذا كان قد يُعذر عرفا بتأذيه به، أما إذا كان تأذيه به لا يعذره أحد به، لإطباقهم على أنه إنما نشأ عن سوء خلق وحدة حمق وقلة عقل، فلا أثر لذلك التأذي، وإلا لوجب طلاق زوجته لو أمره به، ولم يقولوا به" انتهى من "الفتاوى الفقهية الكبرى" (2/128).
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: "ثم ما ضابط ما يأمر به الوالدان؟ فإن الوالدين قد يأمران بالمعصية أو بالكفر وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما، وقصة سعد.
فضابط ما يجب: أن يأمراه بما فيه مصلحة لهما.
أما لو أمرا بما لا مصلحة لهما فيه، أو لهما فيه المضرة: فلا يجب" انتهى من "فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم" (6/206).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "طاعة الوالدين تجب في كل ما فيه منفعة لهما ولا ضرر عليك فيه، فأما إذا أمراك بترك النوافل نظرنا إذا كانا يحتاجان إلى عمل لا تقوم به إذا كنت مشتغلاً بهذه النافلة فأطعهما
مثل أن يقول لك أبوك: يا فلان انتظر الضيوف ولا تصل النافلة، فهنا يجب عليك أن تطيعه لأن هذا لغرض له، وأما إذا قال: لا تصل الضحى. لأنه يكره مثل هذه الأمور، يكره النوافل رجل ما عنده إيمان قوي: فلا تطعه، ولكن داره ما استطعت، بمعنى أن تخفي عنه ما تفعله من الخير" انتهى من "فتاوى ابن عثيمين" (21/65).
وبناء على ذلك، فإذا طلب الوالد منكم زيارته في بيته الذي فيه زوجته الأخرى، ففي ذلك تفصيل:
1-فإن كان في ذلك مصلحة للأب لسهولة الجلوس معكم، ومشقة الخروج إلى مكان عام، أو مشقة الجلوس فيه مدة، ونحو ذلك، ولم يكن في ذلك مضرة عليكم، وجبت طاعته.
2-إذا كان في زيارتكم له في هذا البيت مضرة عليكم، من إهانةٍ أمام زوجته أو أولاده إن كان له أولاد منها، لم يلزمكم طاعته.
وحيث إنكم لم تزوروه في بيته، ولم يتبين لكم ما سيفعله، وقد يكون الأمر على خلاف ما تظنون، فقد يظهر حسن المعاملة لكم أمام زوجته، فإن الأصل أن تزوروه ؛ ثم إن تحقق وجود ضرر من زيارته في بيته، لم يلزمكم ذلك مستقبلا.
والله أعلم.