ما الحكمة من أن تتزوج المرأة بزوج آخر قبل الرجوع إلى الزوج الأول إذا طلقها ثلاث مرات، لماذا تحتاج الزوجة إلى الزواج من رجل آخر وإتمام الزواج بطريقة طبيعية ثم الحصول على الطلاق لأسباب حقيقية من الرجل الثاني؟ هل هناك سبب محدَّد مذكور وراء هذا النوع من الحالات في سُنَّتِنا؟
الحمد لله.
جعل الله عز وجل للرجل ثلاث طلقات، إذا أوقعها لم يكن له الرجوع إلى زوجته، إلا أن تنكح زوجا غيره فيموت عنها أو يطلقها، كما قال تعالى: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ البقرة/229- 230.
والحكمة في جعله ثلاثا أمور:
1-أن الرجل ربما تسرع فطلق المرة الأولى، ثم ندم فراجع زوجته، فإذا طلق الثانية كان ذلك عن بصيرة ومعرفة، فإذا طلق الثالثة كان ذلك - في الغالب- دليلا على عدم استقامة الحياة بينهما، فلا وجه للتمادي في هذه الحياة، ولعل في فراقهما فسحة ورحمة لكل منهما، كما قال تعالى: وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا النساء/130.
قال الرازي رحمه الله في تفسيره (6/ 444): " الحكمة في إثبات حق الرجعة: أن الإنسان ما دام يكون مع صاحبه، لا يدري أنه هل تشق عليه مفارقته أو لا، فإذا فارقه، فعند ذلك يظهر، فلو جعل الله الطلقة الواحدة مانعة من الرجوع، لعظُمَت المشقة على الإنسان، بتقدير أن تظهر المحبة بعد المفارقة، ثم لما كان كمال التجربة لا يحصل بالمرة الواحدة، فلا جرم أثبت تعالى حق المراجعة بعد المفارقة مرتين، وعند ذلك قد جرب الإنسان نفسه في تلك المفارقة، وعرف حال قلبه في ذلك الباب، فإن كان الأصلح إمساكها، راجعها وأمسكها بالمعروف، وإن كان الأصلح له تسريحها، سرحها على أحسن الوجوه، وهذا التدريج والترتيب يدل على كمال رحمته ورأفته بعبده" انتهى.
وقال الدهلوي رحمه الله في "حجة الله البالغة" (2/215): " والسر فِي جعل الطَّلَاق ثَلَاثًا لَا يزِيد عَلَيْهَا أَنَّهَا أول حد كَثْرَة، وَلِأَنَّهُ لَا بُد من ترو، وَمن النَّاس لَا يتَبَيَّن لَهُ الْمصلحَة حَتَّى يَذُوق فقداً، وأصل التجربة وَاحِدَة، ويكملها ثِنْتَانِ" انتهى.
2-أنه لو أتيح للزوج الرجوع كلما طلق، لربما طلق الرجل عشر مرات، فيصير النكاح والطلاق ألعوبة، كلما غضب الرجل طلق، فمنعت الشريعة من ذلك، ليظهر عِظَم أمر النكاح وأهميته.
3-أن الطلاق كسر للمرأة وأذى لها، فلو لم يُجعل للطلاق حد، لأمكن للزوج أن يطلق مرارا، فتتأذى الزوجة بذلك، وربما تَعَمَّد ذلك نكاية لها، وإذلالا، كما كان الحال في الجاهلية، يطلق ثم يراجع ثم يطلق وهكذا.
قال السعدي رحمه الله في تفسيره، ص 102: " كان الطلاق في الجاهلية، واستمر أول الإسلام، يطلق الرجل زوجته بلا نهاية، فكان إذا أراد مضارتها، طلقها، فإذا شارفت انقضاء عدتها، راجعها، ثم طلقها وصنع بها مثل ذلك أبدا، فيحصل عليها من الضرر ما الله به عليم، فأخبر تعالى أن الطَّلاقَ أي: الذي تحصل به الرجعة مَرَّتَانِ ليتمكن الزوج إن لم يرد المضارة من ارتجاعها، ويراجع رأيه في هذه المدة، وأما ما فوقها، فليس محلا لذلك، لأن من زاد على الثنتين، فإما متجرئ على المحرم، أو ليس له رغبة في إمساكها، بل قصده المضارة" انتهى.
4-أنه اشترط نكاحها لزوج آخر، ليتحقق معنى التحديد والإنهاء بالثلاث، لأنه لو جاز رجوعها من غير نكاح مبيح، لكان هذا في معنى الرجعة، فيطلق ويرجعها، أو يطلق ثم يعقد عليها، وهكذا أبدا، فيحصل ما ذكرناه من الأذى والتلاعب، فكان لابد من إنهاء فرص العودة باشتراط نكاح مبيح، ربما لن ترجع بعده إلى زوجها الأول أبدا.
قال الدهلوي: " وَأما اشْتِرَاط النِّكَاح بعد الثَّالِثَة: فلتحقيق معنى التَّحْدِيد والإنهاء، وَذَلِكَ أَنه لَو جَازَ رُجُوعهَا إِلَيْهِ من غير تخَلّل نِكَاح الآخر، كَانَ ذَلِك بِمَنْزِلَة الرّجْعَة، فَإِن نِكَاح الْمُطلقَة إِحْدَى الرجعتين" .
5- وأَن الْمَرْأَة مَا دَامَت فِي بَيته وَتَحْت يَده، وَبَين أظهُر أَقَاربه، يُمكن أَن تغلب على رأيها، وتضطر إِلَى رضَا مَا يسولون لَهَا، فَإِذا فَارَقْتهمْ، ذاقت الْحر والقر، ثمَّ رضيت بعد ذَلِك فَهُوَ حَقِيقِيَّة الرِّضَا.
6-وَأَيْضًا فَفِيهِ إذاقة الْفَقْد، ومعاقبة على اتِّبَاع دَاعِيَة الضجر من غير ترو.
7-وفيه مصلحَة مهمة أَيْضا: فَفِيهِ إعظام الطلقات الثَّلَاث بَين أَعينهم، وَجعلهَا بِحَيْثُ لَا يُبَادر إِلَيْهَا إِلَّا من وَطن نَفسه على ترك الطمع فِيهَا، إِلَّا بعد ذل وإرغام أنف لَا مزِيد عَلَيْهِ". انتهى من "حجة الله البالغة" (2/215).
وقال ابن عاشور: " واشتراط التزوج بزوج ثان بعد ذلك لقصد تحذير الأزواج من المسارعة بالطلقة الثالثة، إلا بعد التأمل والتريث، الذي لا يبقى بعده رجاء في حسن المعاشرة، للعلم بحرمة العود إلا بعد زوج، فهو عقاب للأزواج المستخفين بحقوق المرأة، إذا تكرر منهم ذلك ثلاثا، بعقوبة ترجع إلى إيلام الوجدان، لما ارتكز في النفوس من شدة النفرة من اقتران امرأته برجل آخر" انتهى من "التحرير والتنوير" (2/ 415).
8-وأما اشتراط أن يذوق العُسَيْلة في النكاح المبيح، فلأن النكاح إنما يراد به الديمومة، ولأنه لو اكتفي بالعقد، لأمكن أن يفعل ذلك في المجلس ثم يطلق، فينكحها الأول، فتنتفي حكمة التحديد بثلاث.
9-وأيضا فإن ذوق العسيلة، أي الدخول، فيه ذل وإرغام أنف للزوج الأول، وبه يعلم سوء عاقبة الطلاق، وأن زوجته سينال منها غيرُه، إن لم يحافظ على نكاحها، وفي ذلك حفظ النكاح.
قال الدهلوي: " إِنَّمَا شَرط تَمام النِّكَاح بذوق الْعُسيلَة؛ ليتَحَقَّق معنى التَّحْدِيد الَّذِي ضرب عَلَيْهِم، فَإِنَّهُ لَوْلَا ذَلِك لاحتال رجل بإجراء صِيغَة النِّكَاح على اللِّسَان، ثمَّ يُطلق فِي الْمجْلس، وَهَذَا مناقضة لفائدة التَّحْدِيد" انتهى من "حجة الله البالغة" (2/215).
فليتأمل العاقل كم في هذا التشريع من حكم عظيمة، يصان بها النكاح عن الإفساد والتلاعب، وتصان به المرأة عن الكسر والإهانة، وبه يفكر الرجل مرارا قبل أن يوقع الطلاق؛ لعلمه أنه ليس له إلا الثلاث، وأنه بالثلاث يفقد امرأته، فتذهب إلى غيره، فسبحان الحكيم العليم الخبير.
والله أعلم.