الحمد لله.
لقد قسم الله تعالى الأرزاق قبل أن يخلق الخلق، كما روى مسلم (2653) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: (كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ).
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ، قَالَ: (إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ، وَرِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ ... ) رواه البخاري (3208)، ومسلم (2643).
فالرزق مكتوب في التقدير الأول، ثم في التقدير العمري الذي يكون للإنسان وهو في بطن أمه.
قال النووي رحمه الله في "شرح مسلم" (16/191): " ثم المراد بجميع ما ذكر، من الرزق والأجل والشقاوة والسعادة والعمل والذكورة والأنوثة أنه يظهر ذلك للملَك، ويأمره بإنفاذه وكتابته، وإلا فقضاء الله تعالى سابق على ذلك، وعلمه وإرادته لكل ذلك موجود في الأزل" انتهى.
وقال الملا علي القاري رحمه الله: " (ورزقه) : يعني أنه قليل أو كثير، وغيرهما مما ينتفع به، حلالا كان أو حراما، مأكولا أو غيره، فيعيّن له، ويُنقش بعد أن كانت مكتوبة في اللوح المحفوظ ما يليقُ به من الأعمال، والأعمار، والأرزاق حسب ما اقتضته حكمته، وسبقت كلمته" انتهى من "مرقاة المفاتيح" (1/152).
ثانيا:
الله تعالى حكيم عليم، يقدر الأشياء وفق علمه وحكمته، لا يُسأل عما يفعل.
وقد أخبر سبحانه عن حكمته في عدم إغناء بعض الناس فقال: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) الشورى/27.
قال ابن الجوزي رحمه الله في "زاد المسير" (4/66): " ومعنى الآية: لو أوسَع اللهُ الرِّزق لعباده لبَطِروا وعَصَوْا وبغى بعضُهم على بعض، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ أي: ينزل أمره بتقدير ما يشاء، مما يُصلح أمورَهم ولا يُطغيهم. ( إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ) ؛ فمنهم من لا يُصلحه إلا الغنى، ومنهم من لا يصلحه إلّا الفقر" انتهى.
وقال تعالى: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) الزخرف/32.
وهذه حكمة أخرى، فلو كان الناس أغنياء جميعا لتعطلت معايشهم، ولم يوجد من يقوم منهم بالأعمال الشاقة كالحفر والبناء والسقي والزرع.
قال السعدي رحمه الله في تفسيره ص 764: "وفي هذه الآية تنبيه على حكمة الله تعالى في تفضيل الله بعض العباد على بعض في الدنيا لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا أي: ليسخّر بعضهم بعضا، في الأعمال والحرف والصنائع. فلو تساوى الناس في الغنى، ولم يحتج بعضهم إلى بعض، لتعطلت كثير من مصالحهم ومنافعهم" انتهى.
ثالثا:
توزيع الأرزاق ليس معلقا على الأخذ بالأسباب، فإن الله يرزق بالسبب وغيره، فقد يأتي الإنسان رزق من حيث لم يعمل ولم يحتسب، كأن يأتيه بميراث، أو هبة ونحوها.
فلا يقال: إن الله كتب الغنى لمن علم أنه سيأخذ بالأسباب، فهذا لم يخبرنا الله به، ثم إن الواقع المشاهد يخالفه، فقد يأخذ كثير من الناس بالأسباب ومع ذلك يظلون فقراء، ولله الحكمة التامة في ذلك كما قدمنا.
وكذلك لا يتوقف الأمر على امتلاك "عقلية الأغنياء" ! فهذا يقوله من يظن أن الأمر بحول الإنسان وقوته وعلمه، كما ظن قارون فقال: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) القصص/78.
بل الله تعالى يرزق الماهر الحاذق، والأخرق الجاهل، كما يشاء الله ويُقدّر.
والمقصود أن الرزق مقسوم، ويأتي صاحبه، كما قدر الله، والله يعطي بالسبب، من الاجتهاد والحذق، وبغير سبب؛ إنما مرد ذلك كله إلى مشيئة الله التامة، وعلمه النافذه في خلقه، وحكمته وخبرته: ( إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ) فاطر/31
قال الله تعالى: ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ) الإسراء/18-19.
قال العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس، رحمه الله:
" كل الناس في هذه الحياة حارث وهمام: عامل ومريد، فسفيه ورشيد، وشقي وسعيد.
منهم من يريد بأعماله هذه الدار العاجلة والحياة الدنيا عليها قصر همه، وعلى حظوظها عقد ضميره، جعلها وجهة قصده، ونصبها غاية سعيه، لا يرجو وراءها ثواباً، ولا يخاف عقاباً، فهو مقبل عليها بقلبه وقالبه، معرض عن غيرها بكليته فلا يجيب داعي الله بترغيب ولا ترهيب، ولا يتقيد في سلوكه بشرائع العدل والإحسان.
فمن كان هذه إرادته، وهذا عمله، عجل الله له في الدنيا ما مضى في مشيئته تعالى أن يعجله له، إن كان ممن أراد التعجيل لهم، بحكم إبدال الجار والمجرور في قوله مَنْ نُرِيدُ من الجار والمجرور في قوله عَجَّلْنَا لَهُ فالتعجيل منه تعالى لمن يريد، لا لكل مريد، والشيء المعجل- في قدره وجنسه ومدته- على ما يشاء الرب المعطي لا على ما يشاء العبد المريد. فكم من مريدي الدنيا من يقصد الشيء فلا ينال إلَاّ بعضه، فيضيع عليه شطر عمله، فلا في هذه الدار ولا في تلك الدار، وكم منهم من سعى واجتهد وانتهى بالخيبة والحرمان، فعاد- بعد النصب- ولا ثمرة حصلها عاجلاً، ولا ثواباً ادَّخره آجلاً، وذلك هو الخسران المبين.
ثم إذا قدم على الله في الآخرة جعل له وحضر له جهنم دار العذاب، واضطره إلى دُخولها فيصلاها مذموماً: مذكوراً بقبح فعله وسوء صنيعه في قلة شكره لربه، وعدم استعماله لما كان أنعم عليه به في طاعته، وعدم نظره لعاقبة أمره. مدحوراً: مبعداً في أقصى النار مطروداً من الرحمة. حرم نفسه من استثمار رحمة الله في الدنيا بالشكر عليها، فكان عدلاً أن يحرم منها في الآخرة." انتهى، من "آثار ابن باديس" (1/199).
ثم اعلم أن للرزق أسبابا معنوية تخفى على كثير الناس، كالإيمان والتقوى والعمل الصالح، ومنه صلة الرحم والإنفاق والبذل، وهذه الأسباب تقع لكثير من البسطاء، ممن لا يملك عقلية الأغنياء.
قال الله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) الطلاق/2-3.
وقال : (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) النحل/97.
وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ) رواه البخاري (5986)، ومسلم (2557).
قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) سبأ/39.
وروى مسلم (2984) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ، فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ، فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: فُلَانٌ - لِلِاسْمِ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ - فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، لِاسْمِكَ، فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا؟ قَالَ: أَمَّا إِذْ قُلْتَ هَذَا، فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا، وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ).
فتأمل كيف يسوق الله الرزق لعبده المنفق.
والله أعلم.