الحمد لله.
أولًا:
نص رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل كما عند "البخاري" (7)، ومسلم(1773):
"بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ وَ: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ".
ونص رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس:
"بسم الله الرحمن الرحيم. من محمدٍ عبدِ الله ورسوله إلى المُقَوقِس عظيم القِبْط. سلام على من اتبع الهدى. أما بعد: فإني أدعوك بداعية الإسلام، أسلِمْ تسلَم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم القبط يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ".
انظر: "عيون الأثر" (2/350-351)، "زاد المعاد" (3/291)، "نصب الراية" (4/421-422).
ثانيًا:
هذه الكتب والرسائل والرسل التي بعث بها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء المجاورين لدولة الإسلام، سواء في داخل الجزيرة أو خارجها، حدث تاريخي مدون في أقدم كتب السيرة التي وصلت إلينا، ولم يكن هناك أيّة ضرورة دينية أو سياسية تحمل أحدًا في القرن الأول والثاني على اختراع خبر هذا الحادث وروايته وتدوينه.
وينظر للفائدة: "القرآن والمبشرون" (ص289).
ثالثًا:
لا يصح أن يحكم على الوقائع التاريخية إثباتًا أو نفيًا، بما يتصوره الباحث عن طبيعة الدين الذي ترتبط به هذه الوقائع، بل العكس هو الصحيح، وهو أن الوقائع نفسها: إنما تثبت أن تنفى بناء على التحقيق التاريخي المجرد، ثم تكون هذه الحقائق هي التي تدل الباحث على الطبيعة الحقيقية للدين.
انظر: "المسلمون والروم في عصر النبوة" (ص81 – 82)، و"دبلوماسية محمد" (ص70).
رابعًا:
نحن نعلم- حسب المؤرخين- كالطبري وغيره: أن رسالة النبي لهرقل كانت في أواخر 6 هجريا، يعني أن ذلك كان في حدود شهر إبريل من سنة 627 ميلاديا، والوارد في البخاري وغيره أن النبي أرسل دحية الكلبي بالرسالة، وهو الذي سلمها لعظيم بصرى، وليس لهرقل نفسه.
وخروج هرقل على رأس الجيش معروف، ولكنه انتهى مع الانتصار في نينوي أواخر سنة 627 للميلاد (بين سبتمبر وديسمبر)، وهي المعركة التي تركت إمبراطورية الفرس تصارع الموت.
خامسًا:
المعروف أن تجارة قريش لبلاد الشام كانت في الصيف، وهذا يوضح أن أبا سفيان كان في الشام صيفا، لما التقى به هرقل؛ أي أنه كان في الفترة بين مايو وسبتمبر من العام التالي -628 ميلاديا-، وهو الوقت الذي فتح فيه هرقل الرسالة التي تسلمها من عظيم بصرى، وهذا وارد في حديث أبي سفيان المشهور.
بعبارة أخرى هرقل تسلم الرسالة وقرأها بعد أن انتهت الحرب وعادت الجيوش؛ ففكرة أن الحرب كانت على أشدها لا وجود لها في الحقيقة، إلا بالنظر لوقت إرسال الرسالة، وهو غير مؤثر.
وأما بالنسبة لكسرى فمعروف ماذا كان موقفه من تمزيق الرسالة.
أما المقوقس فهو لقب لحاكم القبط في هذا الوقت، والخلاف حول الشخصية التي شغلت هذا المنصب وقت رسالة النبي معروف؛ والأظهر أنه جورج الأول، المعروف في المصادر الإسلامية باسم جريج بن مينا، وليس هو المقوقس كروش الذي شهد فتح مصر، والذي ارتكب المجازر المذكورة في السؤال، بل هو سلفه الذي توسط حكمه وحكم آخر ولاة الفرس على مصر لفترة ليست طويلة .
على كل حال؛ ليس هناك ما يستدعي إنكار هذه الرسائل من الناحية التاريخية، بل على العكس من ذلك تماما؛ فإن في التفاصيل الصغيرة تأكيدا على صحة إرسال هذه الرسائل، من حيث الجملة.
ومثال ذلك: كون رسالة هرقل تم تسليمها لعظيم بصرى، لأن هرقل كان على رأس الجيش، بينما كان التقاء هرقل بأبي سفيان وقراءة الرسالة في الصيف، يعني بعد الحرب بشهور.
وكذلك رسالة المقوقس، فيها ما يدل على أنه كان من أهل الكتاب، وهذا يوافق وقت إرسال الرسالة، لأن في الفترة بين 626 و628 حصل فيها تمرد للقائد الفارسي شهربراز حاكم مصر على كسرى، إذ قد عقد ولاءه لهرقل، مقابل دعمه لتولي العرش الفارسي، لذلك نجد أن آخر قادة الفرس في مصر وهو شهرانيوزان، انتهت مدته في626 ، ولم يسم أي حاكم لمصر بعد شهرانيوزان حتى عودة مصر للحكم البيزنطي 628-629، وإنما بقي معروفا أن صاحب النفوذ فيها هو شهربراز؛ فلعل ذلك لأن قواته كانت موجودة بها، وتسيطر عليها، ومع ذلك لعله ترك مقاليد الحكم وتسيير الأمور لجورج الأول بطريرك الأسكندرية، الذي كان سلفا لكروش الذي تولى الكرسي البطريركي في 631 وهو -أي كروش - من شهد الفتح الإسلامي .
فبالتأمل في وقت الرسالة وهو حوالي أبريل أو مايو 627 ميلاديا، وتضمنها لمخاطبة المقوقس على أنه من أهل الكتاب؛ يظهر ذلك اتفاقه مع الوقائع التاريخية المثبتة في هذه الفترة .
أما من حيث الجانب التحليلي، وفيما يتعلق بشخصية هرقل وتدينه وموقفه من رسالة النبي: ففي الحقيقة هذا يتطلب معرفة ما كان يفكر فيه هرقل في هذا الموقف، يعني هو كما يظهر لم يكن متدينا مخلصا، وعلاقته بالدين المسيحي لا يظهر أنها كانت إيمانية بريئة، وهذا يظهر بوضوح من خلال زواجه من ابنة أخته وهو زواج غير شرعي في الديانة المسيحية بسبب درجة القرابة، بل إنه حمل بطريرك القسطنطينية على إتمام مراسم الزواج بنفسه؛ فلعله، والله أعلم: كان يرى في الإسلام فرصة لتكرار تجربة قسطنطين في تغيير ديانة الدولة، وخصوصا أن الاختلافات الطائفية في هذه الفترة كانت تمثل صداعا، دائما وتهدد استقرار الإمبراطورية في مختلف الأراضي التي انضوت تحت لوائها، لكن لما وجد أن ردة الفعل لن تكون في صالحه، تراجع عن الفكرة وأصبح يجهز الجيوش ليحارب الإسلام.
وأخيرا؛ يمكننا أن نقول:
ما المشكلة في إرسال الرسائل في أوقات الحروب؟
نحن نعلم أن أحوال الحرب بين الفرس والروم كانت غالبة في هذه الفترة، وكانت الرسائل تستغرق وقتا طويلا حتى تصل الملك، أو الإمبراطور، أو حتى يتمكن من قراءتها. فمثلا في حالة هرقل استغرق الأمر أكثر من عام ليقرأ رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يكن أحد يعلم متى ستنتهي الحرب، أو متى ستبدأ الحرب التالية، أو ما الوقت المناسب لإرسال الرسالة له، أو اطلاعه عليها. وهذا يقتضي بحسب هذا المنطق أن لا تُرسل الرسائل من الأساس ! وهذا في الحقيقة هو الذي يمكن اعتباره غير منطقي وليس العكس.
سادسًا:
لعل المنكرين لهذه الكتب والرسائل: استعظموا أن يرسل رسول الله صلى الله عليه إلى ملوك مثل هرقل وغيره، وهم في صولجانهم وعزتهم، يرغبهم في الإسلام؛ لأن هؤلاء لم يفهموا أساسًا طبيعة الدعوة الإسلامية، فهي قائمة على التبليغ لدين الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة، ودليل ذلك أنه صلى الله عليه وسلم عندما بعث للناس: كان وحده، وكان واجبًا عليه تبليغ الدعوة الإسلامية إلى الناس، فهو خاتم الأنبياء، وهو رسول الله إلى الناس كافة؛ سواء كانوا القريبين له، أو البعيدين منه ، أو الساكنين لأرجاء المعمورة كلها؛ كهرقل وغيره.
والله أعلم.